فالوِيل إذ يُقبر.. "إن شانئك هو الأبتر"
29 ربيع الثاني 1428

[email protected]


في كل غداة وعشية، في كل لحظة تمر في أقطار الدنيا، يقف مؤذنون فوق المنارات يصدحون "..وأشهد أن محمداً رسول الله".. تبلغ عنان السماء، وتشق طبقات الأرض، أو يقف خطباء فيجلل اسم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنبات المساجد وحواليها، يرطبون بها ألسنتهم ويجلون بها الأسماع، يزهو بها السامعون أن ينتسبوا إلى خير من سار على الثرى.. ثم لا يسع الخطباء إذ ذاك أن يتجاوزوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا صارت خطبته "بتراء"، وكيف بربي يتجاوزونه وهو إمامهم، أو كيف ينسون اسمه المنقوش في أفئدتهم..
يلهج المسلمون بذكره في الأرجاء، يردد الجميع اسمه الكريم بحب وإجلال، تود الملايين لأن أن لها برؤيته كنوز الدنيا.. يتيهون في صفحات التاريخ والسير علها تعيدهم إلى حياة بسيطة إلى جوار خير خلق الله، ينعمون برفقته.. يذوبون شوقاً للقياه، وحرقة لفقدانه؛ فيبكون حين يذكرون ساعة أن غاب عن دنياهم وكأنها الساعة الماضية..
ولا غرو، فلقد تكفل له الله بالرفعة، وكما يقول النيسابوري:" قال بعض أهل العلم : إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال { إن شانئك هو الأبتر } وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم تولوا بأنفسهم جوابه [النيسابوري جـ 7 صـ 387،388]، فكيف يدنو قدر من قال عنه الجبار القائل للشيء كن فيكون: "ورفعنا لك ذكرك"؟! وكيف لمن يحبه الله أن يضيع ذكره، وكيف لمن رد الله عنه تخرصات المغرضين الآثمين ألا يكون ذكره في الناس ذائعاً وقامته بين الأنام سامقة؟!
حين علمت بوفاة القس الإنجيلي الأمريكي جيري فالويل شانئ الرسول صلى الله عليه وسلم، عمدت إلى موقعه على الانترنت لأنظر كيف استقبل أنصاره وفاته؛ فلقيته كما هو عرفنا صفته في كتاب ربنا، أبترَ حتى في موقعه، وتذكرت أقوالاً لشيخ الإسلام ترسم ملامح المشهد: "إنه سبحانه يبتر شانئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا عوناً ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعماً ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هواه "، وألفيت ما قاله الإمام الألوسي في تفسيره عنه هو عين الحقيقة، أن "مبغضك كائناً من كان هو الأبتر الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان" [الألوسي جـ 23صـ155]، وتذكرت أن الرجل حين اختالاً تيهاً وعربد؛ فقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خمس سنوات ثم رفض أن يعتذر إلا بكلمات لا تصلح للاعتذار :"أعتقد أن محمد كان إرهابيا، لقد قرأت ما يكفي للمسلمين وغير المسلمين لكي أقرر إنه كان رجلا عنيفا ورجل حرب"، ظن أنه شيئاً يصلح لأن يفعل شيئاً في وقف انسياب دين جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان شأنه كشأن غيره من الحمقى "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"؛ فيا لحمق الطين حين يظن نفسه عسجداً، ويا لبؤس من قاده كبر إلى منزلق الحضيض، ويا لانبتار قول أوعمل يقوم على محاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كم سيبقى ذكرك بعدك أيها المغبون؟! سنة أو سنتين.. عقد أو عقدين؟! بل كيف سيذكرك الناس، كنجم يهدي أم كغراب يدل على جيف الكلاب؟! إنها الحقيقة التي لا يدركها جيش من المبطلين إذ يناطحون صخرة الإيمان، ويريدون أن ينالوا من سيرة خير الأنام، أن يضيع ذكرهم في الناس أو تلاحقهم اللعنات، كما يمحو الزمخشري جلياً كل لبس: "إنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن." [الزمخشري/الكشاف جـ 7 صـ 331]، فقد يكون لهم في الأرض ذكراً، غير أنه ذكر المذلة والخزي، مثلما ذكر الله أبي لهب في كتابه قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، حينما دعا بالفقر والمذلة على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلاحقه الذل والصغار إلى قيام الساعة، بل إلى ما بعدها حين ينادي الله سبحانه أهل القرآن أن ارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فيقرأ القرآن ويردد : "تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب.."
لقد مات جيري فالويل أمس، وهو رجل كرس حياته لنصرة المجرمين الآثمين في فلسطين، قتلة الأنبياء ودعاة الشر في العالم، الذي رشاه الكيان الصهيوني يوماً فمنحه طائرة خاصة، لقاء إخلاصه في دعم العدوان على المسلمين..
لقد مات من كان يقول: "إننا عندما نشن الحرب في العراق سنقوم بذلك لإعادة المسيح إلى الأرض لكي تقوم الحرب الأخيرة التي ستخلص العالم من جميع الكافرين".. وذهب من كذب على الله متعمداً، فقال في مقال له :"إن الله مؤيد للحرب"، فبوئه اللهم مقعداً من النار جراء كذبه عليك وسبه لرسولك الحاشر صلى الله عليه وسلم، وتبرير القتل وسفك دماء مئات الآلاف من المسلمين باسمك وباسم المسيح زوراً وبهتاناً..
ورحل من كان يشرعن للبغي والعدوان على ديار الإسلام الآمنة باسم المسيح عليه السلام، فيقول: "إنه في الوقت الذي يعتبر فيه رافضو الحرب أن السيد المسيح مثال للسلام غير المتناهي، يتجاهلون الرواية بكاملها التي وردت في الرؤية التاسعة عشرة ويظهر فيها المسيح في يده سيف حاد يصعق الأمم ويحكمهم".
هذا الصديق الحميم لحامل لواء الشر في العالم/جورج بوش، ومؤسس الجامعة الإنجيلية، والمؤيد بقوة للكيان الصهيوني الغاصب، حتى أنه قد تلقى نبأ تدمير المفاعل النووي العراقي أوزيراك من الزعيم ورئيس الوزراء الصهويني مناحم بيجن أوائل ثمانينات القرن الماضي، قبل أن يعلم الرئيس الأمريكي نفسه بذلك، كاستحقاق ديني التزم به بيجن لمن يرى في العراق "مملكة الشر/بابل" التي تحول دون قيام "مملكة الرب/إسرائيل الكبرى"، ويؤدلج بذلك أفكار 70 مليوناً من الإنجيليين، طليعة البروتستانت، وقاعدة المحافظين الجدد الحقيقية في بلاد "الوعد الإلهي"/أمريكا.. هذا الصديق قد غادر الدنيا أبتر كما تراءى للناس كل من أراد أن ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم نقيصة، فالوَيل لمن حاد عن سبيل الله وقال معتداً بإرث الكراهية والجور: "في رأيي أرسى المسيح مثالا للحب، وموسى فعل الشيء نفسه لكن محمدا ضرب المثل المناقض لهما"، فالوَيل كل الويل لك يا فالوِيل إذ ارتقيت مرتقى صعباً، ولتظل سنة الله جارية في رسوله وفي مبغضيه.. "ورفعنا لك ذكرك".."إن شانئك هو الأبتر"..