يقال: إنه من الممكن أن تشتري بحر مالك ساعة لا زمنا, وأن تشتري به منصباً لا احتراما, وأن تشتري به سريراً لا نوما, وأن تشتري به دواءًً لا عافية, وزاد بعضهم : وأن تشتري به وداً لا ضميرا, إلا أن هذه الزيادة في صحتها نظر, فالضمير الآدمي اليوم يباع ويشترى في سوق النخاسة, وبأبخس الأثمان!! وقديماً حكى الطنطاوي عن أحد الأدباء الظرفاء في دمشق- ممن ذاع صيته, واشتهر قلمه بكتاباته الصحفية والروائية- أنه التقى مرة بمن عرض عليه أن يكتب له ما يريد في إحدى الصحف بمقابل مادي, وسلمه إياه, فلم يرق لهذا الكاتب قدر هذا المبلغ, فجعل يساومه ليزيد فيه, فغضب صاحب المال, وقال له: ما هذا, هل هي قضية بيع وشراء؟ فقال له بصراحته المعهودة: نعم, إننا نبيعك ضمائرنا!!
ثم علق الطنطاوي على هذه الصفقة بقوله: "ما أرخص الضمائر في سوق النفاق" وصدق رحمه الله, ما أرخصها اليوم, ولئن كان بيع الضمائر مستتراً, فبيعها اليوم أضحى ظاهراً في محل رفع ونصب وجر, ويقبح البيع والشراء حين يكون على حساب الدين أو الوطن, وتزيد هذه المعاوضة قبحاً حين تغيب الصفقة ويظهر أثرها باسم الوطنية أو الحرية أو الإنسانية...الخ , وتزداد خطراً حين يغيب هذا كله عن عين الراعي والرعية.
نعم لم تصدر المجامع الفقهية قراراً بتحريم هذا النوع من البيع؛ لأن العلماء قديماً مجمعون على تحريمه بالنقد أو المؤجل, سواء تمت الصفقة في الحارة أو في السفارة, وسواء انعقد الإيجاب والقبول في مجلس البيت أو في حديقة (الهايد بارك), وسواء كان قبول البيع بالصيغة القولية أو بالمعاطاة, كل ذلك غش وحرام, يمنعه الانتماء للدين الإسلامي, والحس الوطني, ويرفضه الشرف, ويمجه الإباء, وأنى لشريف وأبيّ أن يبيع ضميره بثمن بخس دراهم معدودة.
وللأسف, فقد قل الشرف, وانحسر الإباء, فرخص الضمير, نتيجة لكثرة العرض وقلة الطلب, فظهر من يوظف قلمه ليهدم شعائر دينه, ويقوض أركان وطنه, ليبني على أنقاضه دولة علمانية غربية, بلباس عربي, وكوفية عربية, وظهر من يوظف لسانه ليستبيح به الدين وأهله, وأغرب من هذا وذاك من باع ضميره وهو لا يدري, وباع معه نفسه ومهجته, ففخخ وجهز ودبر وفكر وقدر لينسف البنيان, ويقتل الإنسان, ألا ساء ما يزرون.
إن الشارع الحكيم إذا كان قد منع من بيع عضو الآدمي؛ تعظيماً لحرمته, وتأكيداً لشرفه, فتحريمه لبيع ضميره وقيمه للأجنبي المتربص أشد أثماً, وأعظم جرماً؛ لأن البيع الأول لا يتفق مع آدميته, والثاني لا ينسجم مع ولائه لدينه ووطنه, ثم ما هو مكرر الربح لهذه الصفقة الخاسرة التي تهوي به في درك الشقاء سبعين خريفا؟! والله تعالى وحده من يتولى السرائر.