قال الله تعالى مخبراً عن قول نبيه شعيب عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) (هود: من الآية85)، المعنى إلى هنا مكتمل، فلقد نهاهم النبي الكريم عليه السلام عن التطفيف في المكيال والميزان، وهو داء انتشر في ذلك المجتمع، ولكنه عليه السلام لم يقف على أمر الكيل فقط فالتطفيف أعم وأشمل من مجرد انتقاص الناس أقواتهم، إنه داء قد يوجد في كل جوانب الحياة، ولذا عم بعد تخصيص فقال: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (هود: من الآية85)، لا تبخسوا من يستحق الاحترام ما يليق به، لا تبخسوا من يستحق منصباً ما يجب له، عند الحكم عليه، أو عند تقييم جهوده، أو عند ذكر مناقبه وتجاربه، لا تبخسوا الناس أشياءهم معنية كانت أو حسية.
إن العدل من أجَلِّ قيم الدين، فما تُعرف عقيدة جعلت العدل من صلب قضاياها كما عرفت به عقيدة الإسلام، فقد أمر به مع الجميع مع العدو والصديق، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8)، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2)، أمر بالعدل مع القريب والغريب؛ أمر بالعدل بين الأولاد والزوجات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: من الآية135)، أمر بالعدل في القول، (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152)، بل أمر بالعدل في جميع الشؤون، وجمع ذلك كله قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: من الآية90).
إن الحياة الإنسانية إذ فقدت قيمة العدل، تحولت إلى غابة يأكل قويها ضعيفها، ويعتدي كبيرها على صغيرها، وإن الظلم إن انتشر انتشر معه الحقد، والحسد، والكره، وتفكك ذلك المجتمع الذي غرق في بحر الظلم، فلم يعد رابطٌ يربط أهله أو يستطيع ، ولم يعد بالإمكان جبر ما هشمه الظلم، وقضى عليه الحقد من تلك الوشائج بين أفراده.
إن كثيراً من الناس قد يسهل عليه الالتزام بكثير من قيم الدين، ولكن يعسر عليه أن يتمثل قيمة العدل في كثير من جوانب حياته، وإني أذكر في هذا المقام سؤال قدم للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله من بعض الخيرين، ذكروا فيه أحد المصلحين، وربما كانوا مختلفين مع ذلك المصلح، وربما لم يكونوا يرونه مصلحاً، وكان فحوى السؤال للشيخ ابن باز يحمل منهم جواباً بين ثناه، والقصد منه استنطاق سماحة الشيخ بما أوحي له من جواب في صيغة ذلك السؤال، وفحوى السؤال: هل فلان –أحد المصلحين- يصح وصفه بالمجدد، وانتظر السائل عبارات التجريح والسلب لذلك المصلح من سماحة الشيخ، فقد كانوا نظراً لصياغتهم السؤال لا يشكون في ميل الشيخ إلى مثل رأيهم فيه.
فقال الشيخ بعدله وإنصافه وعلميته المعهودة: إن التجديد نوعان، تجديد كلي مثل الذي وقع من الصحابة وبعض سلف الأمة والأئمة الهداة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وقد يكون التجديد، جزئياً كأن يقوم أحد العلماء بتجديد جانب من جوانب الدين، وإحياءه بعد اندثاره في حياة الناس.
فكان جواباً موفقاً ليس لأن فيه ذبّاً عن عرض ذلك العالم، بل لأنه أحيى ميزان العدل في نفس السائل أو هكذا ينبغي أن يكون.