التطهير بالبخار (1)
23 جمادى الثانية 1428

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ربنا لا تزغ قلوبنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلاً يهدي إليك، وافتح لنا باباً نفد منه عليك، لك مقاليد السماوات والأرض وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد: فإن علم الفقه وأحكامه الدينية يعد من أجلّ العلوم الشرعية، لا تقوم الأمة الإسلامية حق القيام إلا به، ولا يصح لأي فرد منها أن يقدم على تصرف حتى يعلم حكم الله فيه منه، ولأهميته البالغة رغب الشارع في تعلمه وتعليمه، وخص المشتغلين والمهتمين به بميزات لم ينلها غيرهم من المهتمين بالعلوم الأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1).
ومن الأمور التي لا بد أن يعلم المسلم حكم الله فيها ما يتعلق بالطهارة والنظافة من الأحداث والأقذار من أجل أن يكون المسلم في أموره العبادية والعادية على أكمل وجه من النظافة والنزاهة.
ومن المسائل النازلة في هذا العصر، والتي كثر السؤال عن حكمها "التطهير بالبخار" وتأتي أهمية هذه المسألة من كونها تتعلق بالركن الثاني من أركان الإسلام، ألا وهي الصلاة، ومن المعلوم أن الصلاة يشترط لها طهارة البدن والثوب.
ومن خلال البحث وسؤال المهتمين بالفقه فإنني لم أهتد إلى من بحث هذا الموضوع، لذا عزمت على الكتابة فيه وقد قسمت البحث إلى التمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة على النحو الآتي:
التمهيد وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أهمية الطهارة في الإسلام، وبيان أن الأصل في الأشياء الطهارة.
المطلب الثاني: أبرز ما يتطهر به.
المبحث الأول: التعريف بمصطلحات البحث وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالتطهير.
المطلب الثاني: تعريف البخار والألفاظ ذات الصلة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف البخار.
المسألة الثانية: الألفاظ ذات الصلة.
المبحث الثاني: التطهير بالمائعات، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالمائعات المطهرة، وأنواعها.
المطلب الثاني: ما اتفق على التطهير به من المائعات.
المطلب الثالث: ما اتفق على عدم التطهير به من المائعات.
المطلب الرابع: ما اختلف في التطهير به من المائعات.
المبحث الثالث: تطهير الثياب بالبخار، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البخار المتحلل من النجس.
المطلب الثاني: حكم البخار المتحلل من غير النجس، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حكم بخار الماء المطلق.
المسألة الثانية: حكم بخار الحمامات.
المسألة الثالثة: حكم بخار المائعات الطاهرة.
المسألة الرابعة: حكم تطهير الثياب بالبخار.
ثم الخاتمة، وفيها أبرز نتائج البحث.
وبعد:
إن رجائي أن ينظر القارئ في هذا البحث بعين الإنصاف، فما وجد فيه من صواب فهو بتوفيق الله، وما وجد فيه من خطأ فهو من ضعف البشر، وأسأل الله عز وجل أن ينفع به كاتبه وقارئه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

التمهيد وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أهمية الطهارة في الإسلام، وبيان أن الأصل في الأشياء الطهارة:
ورد في الإسلام الحث على الطهارة وقد أثنى الله على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية، ووظيفة شرعية، ومن ذلك ما مدح الله به أهل قباء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للتطهير فقال سبحانه: "فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة: من الآية108).
وأخبر أن التطهير مجلبة لحبه سبحانه فقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة: من الآية222).
وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالتطهر في بداية التشريع فقال سبحانه: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" (المدثر:4، 5).
وامتن الله سبحانه بإنزال الماء الطهور من السماء فقال: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً" (الفرقان: من الآية48)، وقال أيضاً: "وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" (الأنفال: من الآية11).
ومن الأحاديث الدالة على أهمية الطهارة في الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان" (2).
وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله"(3).
وذكر عليه الصلاة والسلام أن التطهر شرط لقبول الصلاة فقال: "لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ"(4) وقال: "لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول"(5).
وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الأصل في الأشياء الطهارة وأن النجاسة عارضة(6) وقد نقل الاتفاق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "إن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسة محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر"(7).
وقال الشوكاني: "اعلم أن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم والأصل البراءة من ذلك"(8).
ومن أبرز الأدلة على أن الأصل في الأعيان الطهارة قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: من الآية29).
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه خلق جميع ما في الأرض للناس وأضافه إليهم باللام، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له، وهذا المعنى يعم موارد استعمالها، ولا يحصل أو يكمل الانتفاع بما ملكه الله للناس ومكنهم منه فضلاً منه ونعمة إلا بالطهارة إلا ما خص من ذلك من الخبائث فيبقى على نجاسته(9).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بعد أن ذكر هذه الآية فيها "دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان ويخرج بذلك الخبائث؛ فإن تحريمها أيضاً يؤخذ من فحوى الآية وبيان المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك"(10).
وقوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" (الأنعام: من الآية119).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وجه الدلالة من هذه الآية فقال: "دلت الآية من وجهين: أحدهما أنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص، فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ إذ لو كان حكمها مجهولاً، أو كانت محظورة لم يكن ذلك.
الوجه الثاني: أنه قال: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" (الأنعام: من الآية119)، والتفصيل التبيين فبين أنه بين المحرمات فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال إذ ليس إلا حلال أو حرام"(11).
وما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير(12) أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول(13).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه"(14).
وجه الدلالة من الحديث من وجهين:
أحدهما: قوله: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه، وتسميته هذا عفواً كأنه والله أعلم لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص، والتحريم المنع من التناول كذلك، والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه ولم يمنع منه فيرجع إلى الأصل(15) وذلك يستلزم طهارته إذ لو لم يكن طاهراً لم يكن مما عفي عنه.
وخلاصة القول إن كون الأصل في الأعيان الطهارة أمر معتبر عند الفقهاء وإن لم يصرح أكثرهم بهذه القاعدة، ولكن الملاحظ أنهم يشيرون إليها في معرض الاستدلال والترجيح في كثير من المسائل الفقهية(16).

المطلب الثاني: ما يتطهر به.
يمكن أن نجمل أبرز ما يتطهر به مما ذكره الفقهاء فيما يلي:
1 – التطهير بالمائعات.
التطهير بالغسل بالماء أو بغيره من المائعات من أبرز المطهرات للنجاسة، وتختلف أحكام التطهير باختلاف المحال المغسولة، وسوف يأتي الكلام عليه لعلاقته بموضوع هذا البحث.
2 – التطهير بالاستحالة.
المراد بالاستحالة: انقلاب الشيء من صفة إلى صفة أخرى(17).
وقد ذكر الفقهاء لذلك صوراً كثيرة لعل أبرزها الخمر تنقلب خلاً، ومن تلك الصور كلب أو ميتة يقعان في ملاحة فتصبح ملحاً، أو العذرة تصبح رماداً. وقد اختلف الفقهاء في كون الاستحالة مطهرة(18)، لكون النووي – رحمه الله – حكى إجماعهم على أن الخمر إذا انقلبت بنفسها خلاً طهرت، وحكى عن سحنون خلاف ذلك، وقال: إن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله(19).
3 – التطهير بالجفاف.
وصورة ذلك أن تصيب النجاسة أرضاً فلا تغسل فورها، بل تترك حتى تجف، فهل يعتبر الجفاف مطهراً؟
اختلف العلماء في ذلك(20)، فذهب الحنفية إلى أن الجفاف يطهر الأرض في حق الصلاة فقط، فتجوز الصلاة عليها ولا يجوز التيمم بصعيدها، وفي رواية أخرى عن الإمام أبي حنيفة يجوز التيمم(21)، وهو القديم في مذهب الشافعية(22).
وقد نصر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول، وحكاه قولا في مذهب الإمام أحمد، لكنه لم يفرق بين جواز الصلاة وجواز التيمم بل قال بجوازهما جميعاً(23).
4 – التطهير بالدلك.
الدلك والفرك متقاربان فالفرك هو الحت بأطراف الأصابع، والدلك هو المسح سواء باليد أو بالأرض أو غيرهما(24).
والتطهير بالدلك قال به بعض الحنفية(25) والمالكية(26)، وأجاز الحنابلة الصلاة بالخفاف التي دلكت، وأن ما بها من أثر النجاسة معفو عنه(27)، واشترط الشافعية للتطهير بالدلك كون النجاسة يابسة ذات جرم يلتصق بالخفاف، وأما البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال(28).
5 – التطهير بالمسح.
وصورة هذه المسألة: الأجسام الصقيلة إذا أصابتها نجاسة هل تطهر بالمسح أم لا بد من غسلها؟
اختلف العلماء في هذه المسألة(29)، والقول بأنها تطهر بالمسح قال به أبو حنيفة(30)، ومالك(31)، وأحمد في رواية اختارها أبو الخطاب(32)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية(33)، وتلميذه ابن القيم(34).
6 – التطهير بالذكاة.
اتفق عامة الفقهاء على أن الذكاة تعمل تطهيراً في الحيوانات المأكولة في جميع أجزائها إلا الدم المسفوح(35)، وأما الحيوانات غير المأكولة فالحنفية يرون أن الذكاة تطهر جلدها(36)، وذهب المالكية إلى أن الذكاة تعمل تطهيراً في الحيوانات مكروهة الأكل كالسباع ونحوها، وهذه طريقة أكثر مشايخهم، وأما طريقة ابن شاس فهي تقول إن التذكية تعمل في محرم الأكل فتطهره، وقد استثنى من هذا الخنزير لغلظ تحريمه، وقال ابن حبيب لا تطهر بالذكاة بل تصير ميتة(37).

المبحث الأول: التعريف بمصطلحات البحث.
المطلب الأول: المراد بالتطهير:
قال ابن فارس "الطاء والهاء والراء أصل واحد صحيح يدل على نقاء وزوال دنس"(38)، وتطهر، وطهرته فطهر واطهر فهو طاهر ومتطهر، والطهارة ضربان طهارة جسم وطهارة نفس(39). وتطهرت اغتسلت وتكون الطهارة بمعنى التطهر، وماء طاهر خلاف نجس، وطاهر صالح للتطهر به(40).
وطهّر الماء بالشيء وغيره جعله طاهراً، وبرأه ونزهه من العيوب وغيرها، والمولود ختنه، والجسم ونحوه (في الطب) أخلاه من الجراثيم بالعقاقير المبيدة(41).
والطهر الخلو من النجاسة والحيض وغيره جمع أطهار... والمِطْهرة ما يتطهر به، وكل إناء يتطهر به كالإبريق والسطل والركوة وغيرها، وما يتطهر فيه جمع مطاهر(42).
فظهر مما سبق أن المراد بالتطهير جعل الشيء طاهراً أي غير نجس وتطهير الثياب أي إزالة النجاسة منها.
والمطهر: ما ينفي ويزيل الدنس، أو ما يتطهر به وذلك أن طهر تفيد معنى الإزالة.

المطلب الثاني: تعريف البخار والألفاظ ذات الصلة:
المسألة الأولى: تعريف البخار:
قال ابن فارس "الباء والخاء والراء أصل واحد وهي رائحة، أو ريح تثور من ذلك البخار"(43). وبخار القدر ما ارتفع منها، وكل رائحة ساطعة بخر وبخار من نتن وغيره، وكذلك بخار الدخان، وكل دخان يسطع من ماء حار فهو بخار، وكذلك من الندى، وبخار الماء يرتفع منه كالدخان(44).
وقال الفيومي "البخار معروف، والجمع أبخرة وبخارات، وكل شيء يسطع من الماء الحار، أو من الندى فهو بخار"(45).
وبخار الفسو ريحه قال الشاعر:
أشارب قهوة وحليف زير****وصراء لفسوته بخار(46)
فظهر مما سبق أن البخار يطلق على الدخان، وما يسطع من الماء، أو من الندى.
وفي الاصطلاح العلمي الحديث البخار "هو المادة الشبيهة بالغاز التي تتبخر من سائل درجات حرارة دون درجة غليان السائل(47) أما بخار الماء فهو "البخار الذي يتصاعد عندما يسخن الماء إلى درجة غليانه أو ما فوقها"(48).
وأما عند الفقهاء فلم أعثر على تعريف خاص للبخار، وذلك لكونه – كما قال الفيومي – معروفاً(49)، ولكن الذي يظهر لي أن المراد به: ما يتصاعد من الماء أو الندى، أو أي مادة رطبة تتعرض للحرارة(50).
المسألة الثانية: الألفاظ ذات الصلة:
1 – البخر: الرائحة المتغيرة من الفم، وكل رائحة ساطعة بخر(51) قال أبو حنيفة(52): "البخر النتن يكون في الفم وغيره بخر بخراً وهو أبخر"(53) قال محب الدين الزبيدي: "قال شيخنا والمعروف في البخر التقييد في الفم دون غيره، كما جزم به الجوهري، والزمخشري، والفيومي، وأكثر الفقهاء(54).
ويقال بخّرت لنا وبخرت علينا نتنت، وفي كلام الدؤلي "لا يصلح للخلافة من لا يصبر على سرار(55) الشيوخ البخر"(56) والبُخر جمع أبخر تقال للذكر إذا أنتن ريحه، والأنثى بخراء، والجمع بخر، مثل أحمر وحمراء وحُمر(57)، وبنات بخر كبحر ومخر سحائب يأتين قبل الصيف منتصبة رقاق بيض حسان، والبخراء والبخرة: عشبة تشبه الكشنى ولها حب مثل حبه، سوداء، سميت بذلك لأنها إذا أكلت أبخرت الفم حكاها أبو حنيفة، قال: وهي مرعى وتعلفها المواشي فتسمنها، ومنابتها القيعان(58).

العلاقة بين البخار والبخر:
تبين مما سبق أن البخار تثيره الريح، والبخر له رائحة؛ فالجامع بينهما أن الريح تثيرهما، ولكن البخر خاص عند الفقهاء بالرائحة الكريهة التي تخرج من الفم، أما البخار فهو ما يخرج من الماء الحار، أو من الندى(59).

2 – الدخان:
قال ابن فارس "الدال والخاء والنون، وهو الذي يكون عند الوقود ثم يشبه به كل شيء يشبهه من عداوة ونظيرها"(60).
والدخان مثل رُمّان، وهو المشهور على الألسنة العُثان(61)، وهو معروف جمع أدخنة، ودواخن، ودواخين(62).
وابنا دخان غنى وباهلة(63)، قيل سمو به لأنهم دخنوا على قوم في غار فقتلوهم(64).
ومن المجاز (هدنة على دخنٍ)(65) أي على فساد واختلاف تشبيهاً بدخان الحطب الرطب، لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر(66)، قال أبو عبيد "تفسيره في الحديث هو قوله "لا ترجع قلوب على ما كانت عليه"(67) وأصل الدخن أن يكون في لون الدابة كدورة إلى سواد"(68).
فظهر مما سبق أن الدخان يراد به ما يتصاعد من النار عند الاحتراق.

العلاقة بين البخار والدخان:
يظهر أن هناك توافقاً في المعنى اللغوي بين البخار والدخان، ولذلك قال بعض علماء اللغة إن كل دخان يسطع من ماء حار فهو بخار(69)، وقال ابن تيمية رحمه الله: "قد يسمى البخار دخاناً ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11). قال المفسرون: بخار الماء، كما جاء في الآثار "إن الله خلق السماوات من بخار الماء" وهو الدخان، فإن الدخان الهواء المختلط بشيء حار، ثم قد لا يكون فيه ماء، وهو الدخان الصرف، وقد يكون فيه ماء فهو دخان، وهو بخار كبخار القدر، وقد يسمى الدخان بخاراً؛ فيقال لمن استجمر بالطيب تبخر، وإن كان لا رطوبة هنا بل دخان الطيب سمي بخاراً"(70) أ.هـ وقد غلب استعمال الدخان فيما نتج من احتراق الحطب، ولذلك قال ابن فارس إنه يكون عند الوقود(71)، وأما البخار فغلب استعماله فيما يخرج من الماء أو الندى"(72)، قال الشوكاني: "الدخان ما ارتفع من لهب النار، ويستعار لما يرى من بخار الأرض"(73).

3 – البخور: كصبور ما يتبخر به، وثياب مبخرة مطيبة، وتبخر بالطيب ونحوه تدخن، وفلان يتبخر ويتبختر(74)، وبخور مريم نبات جلاء مفتح مدر نفّاع(75) والمبخور المخمور(76).

العلاقة بين البخار والبخور:
يظهر مما سبق أن البخور هو عبارة عن دخان، ولكنه دخان لنوع خاص من الطيب إذا وضع على الجمر انبعثت منه تلك الرائحة، فهو أقرب ما يكون للدخان، بخلاف البخار فإنه عبارة عما يتصاعد من الماء، أو مما فيه رطوبة.

_________________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ص 39 برقم (71)، ومسلم في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة ص: 516 برقم (1037).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، ص 140، رقم الحديث (223).
(3) أخرجه الترمذي في سننه 1/30، 31 رقم الحديث (19)، والنسائي في سننه ص 15، رقم الحديث (46) وصححه الألباني، ينظر: صحيح سنن النسائي 1/25 (46).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه – واللفظ له – ص 135 رقم الحديث (135) ومسلم في صحيحه، ص 140، رقم الحديث (225).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه ص 140، رقم الحديث (224).
(6) ينظر: المبسوط للسرخسي 1/71، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/139، وحاشية القليوبي على كنز الراغبين 1/40، والمغني لابن قدامة 6/374 والقواعد الفقهية لابن سعدي ص: 26.
(7) مجموع فتاوى ابن تيمية 21/542.
(8) الدراري المضية شرح الدرر البهية 1/33.
(9) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 21/535، ومغني المحتاج للشربيني 1/78.
(10) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/69.
(11) مجموع فتاوى ابن تيمية 21/536.
(12) قال النووي رحمه الله: "جاء في رواية البخاري وما يعذبان في كبير وإنه لكبير" ذكره في كتاب الأدب في باب النميمة من الكبائر، وفي كتاب الوضوء من البخاري "وما يعذبان في كبير بل إنه كبير"، فثبت بهاتين الزيادتين الصحيحتين أنه كبير؛ فيجب تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "وما يعذبان في كبير"، وقد ذكر العلماء فيه تأولين أحدهما: أنه ليس بكبير في زعمهما، والثاني أنه ليس بكبير تركه عليهما، وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى تأويلاً ثالثاً أي ليس بأكبر الكبائر. ينظر صحيح مسلم بشرح النووي 1/533.
(13) أخرجه البخاري في صحيحه ص 65 رقم الحديث (218) وأخرجه مسلم في صحيحه ص 167، رقم الحديث (292).
(14) أخرجه الترمذي في سننه 4/220 رقم الحديث (1726)، وابن ماجه في سننه 5/72 رقم الحديث 3367، والحاكم في المستدرك 4/115 وحسنه الألباني ينظر: صحيح سنن ابن ماجه 3/141 (3430).
(15) ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 21/538.
(16) ينظر: المبسوط للسرخسي 1/71، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1/30، 40، والشرح الصغير للدردير 1/29، والفواكه الدواني للنفراوي 1/148، 149، والمجموع شرح المهذب للنووي 1/212، ومغني المحتاج 1/78، والإقناع للخطيب الشربيني 1/22، وتقرير القواعد لابن رجب 3/149، وكشاف القناع للبهوتي 1/46.
(17) الباجوري على ابن القاسم 1/110.
(18) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني 1/85، وتبيين الحقائق للزيلعي 1/76، ومواهب الجليل للحطاب 1/97-98، وشرح الخرشي على خليل 1/88، ومغني المحتاج للشربيني 1/82، ونهاية المحتاج للرملي 1/230-232، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21/70، 72، 483، والإنصاف للمرداوي 1/320.
(19) شرح صحيح مسلم 13/133.
(20) ينظر: بدائع الصنائع 1/85، وتبيين الحقائق للزيعلي 1/76، ومواهب الجليل للحطاب 1/162، والمجموع شرح المهذب للنووي 2/219، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي 1/99.
(21) ينظر: الهداية للمرغيناني 1/35، بدائع الصنائع للكاساني 1/85، وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) 1/207.
(22) ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي 2/219.
(23) ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 21/480، 481، 510.
(24) ينظر: المصباح المنير للفيومي 199، 471 مادة (دلك) و(فرك).
(25) واشترط أبو حنيفة الجفاف، وكون النجاسة لها جرم، ينظر: فتح القدير لابن الهمام 1/171، والبناية على الهداية للعيني 1/714.
(26) ينظر: القوانين الفقهية لابن جزي: 34، ومواهب الجليل للحطاب 1/153، 154، وشرح الخرشي على خليل 1/110، 111.
(27) ينظر: الإنصاف للمرداوي 1/322، وكشاف القناع للبهوتي 1/218.
(28) ينظر: المهذب للشيرازي 1/57، وروضة الطالبين للنووي 1/280.
(29) ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي 2/ ، ومغني المحتاج للشربيني 1/58، وشرح العمدة لابن تيمية 1/322، والفروع لابن مفلح 1/244، والإنصاف للمرداوي 1/322.
(30) ينظر: المبسوط للسرخسي 1/81، وبدائع الصنائع للكاساني 1/85.
(31) ينظر: الإشراف 1/110، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 1/170.
(32) ينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/155، والفروع لابن مفلح 1/244.
(33) ينظر: مجموع الفتاوى 21/523.
(34) ينظر: إغاثة اللهفان 1/144، 155.
(35) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني 1/86، ومواهب الجليل للحطاب 1/88، 103، وبداية المجتهد لابن رشد 1/323، والمجموع شرح المهذب للنووي 1/256، وكشاف القناع للبهوتي 1/60.
(36) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني 1/86، والبناية على الهداية للعيني 1/376.
(37) ينظر: عقد الجواهر لابن شاس 1/390، 391، ومواهب الجليل للحطاب 1/88، 103.
(38) معجم مقاييس اللغة ص 626 (طهر).
(39) ينظر: المفردات في غريب القرآن للراغب 2/410 (طهر).
(40) ينظر: المصباح المنير 1/278 (طهر).
(41) ينظر: المعجم الوسيط 2/568 (طهر).
(42) المرجع السابق 2/568 (طهر).
(43) معجم مقاييس اللغة ص 117-118.
(44) ينظر: المحكم لابن سيده 5/182، وتاج العروس للزبيدي 6/61.
(45) المصباح المنير 1/37.
(46) البيت للفرزدق في ديوانه ص: 388، وتاج العروس 6/62.
(47) المعجم العلمي المصور ص 586.
(48) المصدر نفسه ص 530.
(49) المصباح المنير للفيومي 1/37 (مادة بخر).
(50) ينظر: حاشية الجمل 1/179، والموسوعة الفقهية 8/17.
(51) ينظر: المحكم لابن سيده 5/181، وتاج العروس للزبيدي 6/61.
(52) أبو حنيفة: هو أحمد بن داوود الدينوري أحد علماء اللغة، من مصنفاته الفصاحة، ولحن العامة، والنبات، توفي سنة 282هـ/ إنباه الرواة للقفطي 1/76-79، ومعجم الأدباء 5/26.
(53) المحكم لابن سيده 5/181.
(54) تاج العروس للزبيدي 6/61.
(55) السرار: المناجاة، يقال ساره مسارة وسراراً ناجاه وأعلمه بسره. ينظر: القاموس المحيط 2/47، والمعجم الوسيط 1/426 (السر).
(56) أساس البلاغة للزمخشري ص 30.
(57) المصباح المنير للفيومي 1/37.
(58) المحكم لابن سيده 5/281، وتاج العروس للزبيدي 6/61.
(59) ينظر: تاج العروس للزبيدي 6/61، ومجموعة قواعد الفقه لمحمد عميم الإحسان، ص 204.
(60) معجم مقاييس اللغة، ص 378، مادة "دخن".
(61) العثان: الدخان وزناً ومعنى، وأكثر ما يستعمل فيما يتبخر به. ا.هـ. المصباح المنير 1/393.
(62) المحكم لابن سيده 5/142، وتاج العروس للزبيدي 18/190، مادة "دخن".
(63) ذكر أئمة الأنساب أن غنى هو: غنى ابن أعصر، وأعصر هو: ابن سعد ابن قيس بن عيلان، وباهلة وغنى ابنا أعصر، ا.هـ. من تاج العروس للزبيدي 20/31 (غني).
(64) تاج العروس للزبيدي 18/190 مادة "دخن".
(65) جاء في مجمع الأمثال للميداني 2/382 "الهدنة في كلام العرب: اللين والسكون، ومنه قيل للمصالحة: المهادنة؛ لأنها ملاينة أحد الفريقين الآخر، والدخن تغير الطعام وغيره مما يصيبه من الدخان، فاستعير الدخن لفساد الضمائر والنيات".
(66) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/109.
(67) هذا جزء من حديث أخرجه ابن حبان في صحيحه – ينظر صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 13/298-299 – وإسناده صحيح.
(68) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 2/262، وينظر: الغريبين في القرآن والحديث لأبي عبيد الأزهري 2/626، ولسان العرب لابن منظور 4/311.
(69) ينظر: تاج العروس للزبيدي 6/61.
(70) مجموع فتاوى ابن تيمية 17/265.
(71) معجم مقاييس اللغة، ص 117.
(72) ينظر: تاج العروس للزبيدي 6/61.
(73) فتح القدير للشوكاني 4/507.
(74) أساس البلاغة للزمخشري ص 30، وتاج العروس للزبيدي 6/61، مادة (بخر).
(75) القاموس المحيط للفيروز أبادي 1/369 مادة (بخر).
(76) تاج العروس للزبيدي 6/61.