لما ذكر مؤرخُ الإسلام الحافظُ الإمام الذهبي أنواعَ التواريخ التي تناولت مختلف طبقات المجتمع المسلم والتي أوصلها إلى أربعين تاريخاً حتى إنه ذكر منها تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين والمنجمين والسحرة.. ليته - رحمه الله - ذكر منها تاريخ أولئك الخونة الذين سوَّدوا صفحاتِ التاريخ بمواقفهم وخيانتهم..
هم لم يسقطوا ملوكاً فحسب بل أسقطوا شعوباً وأمماً وخلافات, ومع الأسف فإن العلماء وسابِرو التاريخ وقتها أصيبوا (بفزع سياسي) فتولد عندهم خوفٌ من الخوض في مثل هذه القضايا الخطيرة مما جعلها تصبح حبيسة الأذهان. ومن تكلم من العلماء حينها وصدع بكلمة الحق أصبح يترقب (ضيوف الفجر) ممن كابدوا الليل لا بطُولِ قيام وإنما بِخُبثِ طوية وفساد معتقَد!!
وقد حدثنا التاريخُ كثيراً عن أولئك الخونة (المتمسلمين)؛ حدثنا عن عبد الله بن سبأ لما كان يعمل في الخفاء ويُحدث الفتنة كما في حادثة الجمل, وبالثورة والتأليب كما وقع منه حيال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -..
حدثنا التاريخُ عن عبيد الله بن يزيد قاتل الحسين..
حدثنا التاريخ عن أبي دؤاد المعتزلي قاتل القضاة والعلماء..
حدثنا التاريخ عن أبي طاهر القرمطي منتهك حرمة المسجد الحرام..
حدثنا التاريخ عن الحسين الحلاج صاحب البدعة المكفرة والقول بالحلول والاتحاد..
وحدثنا التاريخ عن ابن العلقمي الوزير المنافق صاحب الرسائل العلقمية الخائنة لهولاكو...!!
إن التاريخ القديم كما حدثنا عن أولئك الخونة (المتمسلمين) في الحقبة الماضية, فقد حدثنا التاريخ الحديثُ عن أسماءٍ سوداءَ وعملاءَ مرجفين وطوابيرَ مختلفةِ الأجناس والتوجهات للإطاحة بدول عربية تنتمي إلى الإسلام ولو بالظاهر أمثال حسني الزعيم, وأديب الشيشكلي, وسامي الحناوي, وأسعد طلس - عميل بريطانيا الوفي -، ونوري السعيد، وأحمد خان قائد اتجاه التغريب في الهند ومؤسس المدرسة الفكرية التغريبية الذي دعا إلى تقليد الحضارة الغربية وإلى تفسير الإسلام تفسيراً مطابقاً لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر. وغير هؤلاء الكثير الكثير ممن تعرفهم في لحن القول..!!
ولذلك كتب الدكتور محمد محمد حسين وقتها كتابه القيم "حصوننا مهددة من داخلها" وشنع فيه على الانهزاميين (المتمسلمين) الذين وقعوا تحت سيطرة الأفكار والنظم الغربية.
ومثل هؤلاء لا ينبغي أبداً أن يذكُر أحدٌ لهم سيرةً وإنما تكفي الإشارة بأسمائهم، فهم في الحقيقة لا يستحقون أن يُرفع لهم ذكر أو شأن وإن كانوا أبقوا بصماتِهم في دُوَلِهم؛ بصماتِ الخزي والخيانة والتخريب.
إن بعض هؤلاء العملاء حاول أن يبني له قاعدةً صلبة ولو على المدى البعيد؛ قاعدة ذات نتائج وخيمة وأهداف خبيثة وخطط مدعومة، والأثر المترتب على ذلك الإطاحة بكِيان الأمة المسلمة.
ولذلك لما حصلت الانقلاباتُ المتتالية في الدول العربية المجاورة في السنوات السابقة كانت قوى الانقلاب فيها تُدعم من عدوٍ خارجي لمصالِحَ ومطامعَ ثرواتية فيها. وبينما كانت هذه الدول العربية تتقلب بين هذه الانقلابات كانت إسرائيل التي قامت على أكتاف الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية تعد العدة للعدوان والاحتلال وتوسيع رقعتها الجغرافية.
إن العدو الآن يتربص بنا وإننا لنعلم أن هناك خططاً تآمرية رهيبة تطبخ بدوائر (البنتاغون) والمخابرات المركزية الأمريكية على نار هادئة. وما تقاريرُ مؤسسة (راند) الأمريكية لدراسات طبيعة الشرق الأوسط والتيارات الإسلامية بها إلا أكبر نموذج مشاهد لهذا التربص فهل لك أن تعي الواقع الذي من حولك؟!
إن ما كنا نسمعُه من أسماء لهؤلاء العملاء الخونة في بلد عربي مثل مصر أمثال (فكري أباظه) -صاحب مقالة (إن أعظم رجل في التاريخ الحديث هو مصطفى كمال أتاتورك) - ومن تصدروا أعمدةَ الصحف والمجلات في تلك الحقبة أمثال (عبد الرحمن الشرقاوي) و(يوسف الخال) وغيرهم من (المتمسلمين) الذين ينتسبون للإسلام اسماً وهم في حقيقة الأمر أعداء حاقدون، هم أنفسهم - وإن اختلفت أسمائهم - الذين نراهم ونشاهدهم في قنواتنا وهم الذين اعتَلَوْا أعمدة صحافتنا وفُتح لهم المجال لكتابة ما يريدون.. !! كنا نعرفهم (طابوراً خامساً) فإذا بهم طوابيرُ منظمة ومدعومة.
وما زالت (الصحافةُ الصفراء) تُخَرِّج لنا أسماءً جديدة لهؤلاء (المتمسلمين) وتنشر لهم أفكاراً مستوردة حتى أضحت هذه الصحافة التي تحتضنها بعضُ البلاد المسلمة حرباً على الإسلام هدفُها هدم القيم الإسلامية وتدمير مفاهيمها.
إن الخيانة التي نتحدث عنها هنا ليست قيام بعض الأشخاص بالتجسس لصالح العدو وقت السلم أو وقت الحرب فمثل أولئك يعرفهم الناس وتلفظهم الشعوب, ويحتقرهم كل عاقل..
إن الخيانة التي نعنيها هي تلك التي يقوم بها أناسٌ من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ويكيدون في نفوسهم أو عند ملئهم لكل ما يمت للإسلام بصلة, سواءً كانوا حكاماً أو وزراء أو مفكرين أو ليبراليين (متمسلمين).
إن ما حدث من الخيانات منذ قرون وسنوات ما زالت تخلف وراءها الآثار السلبية وتؤكد أن الجرح ما زال غائراً.. ولا أدلَّ على ذلك من الآثار التي بقيت بعد (واضح الصقلي) أول من استعان بالغرب ضد أهل الإسلام !!
نعم سيظل ابن سبأ ومن كان على شاكلته رمزاً لخيانة الضمير قبل خيانة العقيدة وخيانة الوسيلة قبل خيانة الهدف.
العروض المجانية:
من العروض المجانية التي سجلها التاريخُ الحديثُ ما فعله السلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني حينما تلقى عروض (هرتزل) ممثل الصهيونية العالمية، وكرر إغراءاته لإنقاذ الدولة العثمانية من ديونها، وتقوية جيوشها وتدعيم اقتصادها، مقابل بيع فلسطين!! والتنازل عن بعض أراضيها.. فما كان من السلطان إلا أن يرفض إغراءات العروض الصهيونية ويُصِرّ على الحفاظ على سائر الديار الإسلامية، فثارت القوى الصهيونية، وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم (الرجل المريض) وظهر في عالم السياسة ذلك الوقت ما عرف (بالمسألة الشرقية) التي سعت فيها أوربا لطرد العثمانيين وتقسيم ممتلكاتهم.
ثم توالت (العروض المجانية) حتى اختير الرجل المناسب في المكان المناسب - ممن باع آخرته بدنياه - لما لُمِّع شخص (كمال أتاتورك) ذلك (المتمسلم) الذي عرف بلقب الغازي لما فُتحت الأبواب أمامه وأُظهر انتصارُه على اليونانيين، ولكنه لم يلبث أن ظهر على حقيقته، وأنه صَنِيعةٌ لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى.
وفي عام 1342هـ قدم أعظمَ هديه للغرب (إلغاء الخلافة) ولما أثقلت كاهلَه الخيانةُ وطمست على قلبِه وأعمت بصرَه وبصيرته قال بعد أن ألقى القرآن ذات مره في يده: (إن ارتقاءَ الشعوب لا يصلُح أن ينفذ بقوانين وقواعدَ سُنت في العصور الغابرة).
ومثل هذه العروض المجانية ما تقوم به الدول العربية ودول الشرق الأوسط من القيام بدعوة أبنائها للابتعاث إلى الخارج.. والنتيجة أن يصبحوا لقمة سائغة للتغريب، ويذوب الطرف الأضعف في الطرف الأقوى ذوباناً شبه كامل حيث يترسَّمون خطاهم ويسيرون على منوالهم في كل شيء؛ في النظم والتشريعات والقوانين، بل حتى في الزي واللباس وطريقة التفكير. وما نموذجُ (رفاعة الطهطاوي) من مصر، و(خير الدين التونسي) من تونس، إلا أكبر شاهد لنقل الحضارة (الباريسية) التي ترعرعوا عليها هناك.
إن ما تبثه بعض قنواتنا العربية وما تلاقيه من دعم من جهات مشبوهة لأكبرُ شاهد على القيام بدور الخسة والخيانة، لكن بَدَلَ أن يقوم بهذا الدور فردٌ قام به أفراد وجماعات منظمة!! وبدل أن تكونَ ارتجاليةً أصبحت مؤسسية وتدار على طاولة النقاش!!
يُجلِّي ذلك ما ذكر في تقرير(2007م RanD) من الإشارة إلى الدعم التي تتلقاه قناة الحرة الفضائية وراديو (سوا) - والتي تخاطب سكان دول الخليج على وجه الخصوص - والذي بلغ (671 مليون دولار) في السنة!!.
وهذا دليل جديد على الدعم المستمر لكل ما من شأنه زعزعةُ الْهُوية الإسلامية.
الأفكار التوفيقية:
إن هذه الأفكار نشأت نتيجة الإغراق في التبعية للغرب والتي نستطيع أن نقول إنها بدأت بعد انهيار الخلافة العثمانية حينما واجَه الغربُ الصليبي والشيوعيةُ والصهيونية الأمةَ الإسلامية ونشِط حينها (المتمسلمون) وأصبحوا في حل من القيود، وأخذت أفكارُهم تجد هوًى وتأييداً لدى العامة لتصبح رأياً عاماً باسم التقدمية والنهضة والإصلاح!! وقامت هذه المدرسة الجديدة ذاتُ الأفكار التوفيقية والتي ترمي إلى التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية في ميادين الحياة حتى كان من نتاج هذه الأفكار: تفسير النصوص تفسيراً عصريا يلائم الفكر السائد!!
وقد ألجأ الهجوم الفكري في هذه المدارس إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام إذ جردته من كثير من أحكامه الصريحة نحو تعدد الزوجات، والربا، والتماثيل، والجهاد، وأهل الذمة.. فأصبحت هذه الأمور عندهم في الإسلام من نقاط الضعف التي تحتاج إلى دفاع!!
أسأل الله بمنه وكرمه أن يكفينا شر هؤلاء (المتمسلمين) وأن يكبت انتشار أفكار هذه المدرسة التغريبية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.