في يومٍ حار من أيام الرياض القائظة، كنت واقفاً مع أحد مشايخنا، إذ اعترضه أحد الشباب يستفتيه، وكان واضحاً من السؤال الذي ألقاه على الشيخ أنه كان من المشتغلين بطلب العلم الشريف، إلا أن الذي أزعجني وأصابني بالاشمئزاز، سوء مظهر هذا الإنسان، فقد كان متسخ الثياب، منتشر الهيئة، كريه الرائحة، ولا أودُّ التصريح بما سوى ذلك؛ ضنَّاً بذوق القارئ الكريم.
فلا أدري هل أعجب من جرأة هذا على التعرض للشيخ وهو في هذه الحال، أو من حلم الشيخ عنه، وسعة صدره وتلطفه به، ولكنه حسن الخلق الذي يعرفه من خالط الشيخ.
نظافة المسلم ـ وطالب العلم خاصة ـ ليست من التكميليات، أو من لزوم ما لا يلزم، فقد ابتدأ الفقهاء كتب الفقه بأبواب الطهارة، وعرفوها بأنها النظافة والنزاهة من الأقذار، ليبدأ طالب العلم بالتخلية قبل التحلية، نجد هذا في كتب المذاهب الأربعة، كما نجده في مصنفات الحديث، عدا الموطأ الذي ابتدأه بكتاب الوقوت لنكته عند مالك ـ رحمه الله ـ وهي أن الوضوء إنما يجب عند دخول الوقت، إلا أن الذي ارتضاه عامة المصنفين ـ سواه ـ الابتداء بأبواب الطهارة، وتناولوا فيها تعريف الطهارة والنظافة، وأدواتها وتقنياتها المعروفة في عصورهم، وقد صرح غير واحد ممن كتب في آداب العلم قديماً وحديثاً أن هذا الموضوع من المهمات.
إني لأعجب من بعض المتزهدة والمتنسكة ممن أهمل منظره، وترك تعاهد ثيابه، وترهَّب فيما يبدو للناس، كيف يغفلون عن الطبائع السوية، والسنن الرضية، القاضية بحسن النظافة والطهارة، ويبدو أن هذه الغفلة ليست حادثة، بل الخلل في هذا قديم، فقد قال أيوب السختياني ـ وذُكِرَ له هؤلاء الذين يتقشفون ـ: " ما علمتُ أنَّ القذر من الدين "اهـ، وقد انتقد هذه الظاهرة، وردَّ على أصحابها فأحسنَ الرد: أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه: تلبيس إبليس، وقسَّمهم إلى قسمين: لصٍّ ليلي، ولصٍّ نهاري!، وأبو العباس ابن تيمية في رده على القلندرية من غلاة المتصوفة.
أين يُذهب بهؤلاء المتظاهرين باتباع السنة عن السنن الثابتة عن سيد ولد آدم - عليه الصلاة والسلام ـ من تعاهد ذلك كله، وقد صرح بأنه حبب إليه من الدنيا: النساء والطيب، وفي قصة التحريم المذكورة في مطلع سورة التحريم، لم تجد أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ شيئاً يهمُّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل أن يقلن له إن فيك ريحاً غير طيبة، وكنَّ يعلمن أنه يشتد عليه أن توجد منه الريح، فقلن له ما قلن، فبلغ منه الغم مبلغاً عظيماً، هذا وهو مجرد كلام، والقصة مخرَّجة في الصحيحين، فكيف بمن يدعي اتباع سنته، ويخالفه في هديه.
رأيتُ في بعض زياراتي إلى بلاد الهند بعض نساك الهنادك، وهم قد توشحوا بالأسمال الرثة، ولبسوا الأزُر والأردية، ولطَّخوا جباههم بالطين، ونشروا شعورهم، يمشون حفاةً في الطرق والمطارات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فلله تعالى الحمد أن عافانا من هذه الآصار والأغلال.
لقد جاءت هذه الشريعة بأكمل الهدي وأصلحه للإنسان، حتى إن المحرم وهو في حال يُطلب منه التبذل والتجرد من الثياب المعتادة، يؤمر بتعاطي الأسباب المزيلة لما يُستقذر عادة، من تعاطي الغسل بالأُشنان والسدر، واستعمال ما يقطع رائحة العرق من ذريرة ونحوها، ثم التضمخ بالطيب في بدنه، واستعمال ما يسكن الشعر بتلبيده بالعسل ونحوه، كل ذلك صيانة للهيئة الإسلامية، حتى لا تخرج هيئة المسلم عن هيئة الآدميين، إلى ما يشبه هيئة السباع المتوحشة.
المتأمل في سير العلماء الكبار، يجدهم قد امتازوا عن غيرهم من العوام وجهلة المتنسِّكة بالعناية بالمظهر، وتعاهد سنن الفطرة، ونقاء الأردان، وطيب الريح، وفي عصرنا هذا لم تكن ترى الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ إلا وهو في غاية التأنق، يعبق منه أطيب أنواع العود والغالية، يرتدي شماغ البسام الجيد النسج، الحسن الطرق، وثوباً أبيض ناصع البياض بلا رقبة، وعباءةً عودية اللون من الصنف الفاخر، إلا أنها مشمرة فوق الكعبين، تزين وجهه لحية لطيفة، لا تكاد تُرى إلا مخضبة بلون الحناء والكتم، ومع هذا يكون في غاية التواضع ولين الجانب.
وكذا كان تلميذه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ إلا أنه كان أكثر تقشفاً في المرأى من شيخنا ابن باز، كان ابن عثيمين بسيطاً في ملبسه إلا أنه يشع بياضاً ونقاءً، أبيض اللحية إلا أنه منوَّرٌ مليح الشيبة، كان يرتدي غترةً بيضاء ناصعة البياض، لا تكون مكوية كياً جيداً في كثير من الأحيان، ولم أره يلبس الشماغ الأحمر قط، بخلاف ابن باز فلم أرَه يرتدي الغترة البيضاء قط، وكان ابن عثيمين يشتمل بعباءةً نظيفة مشمرة، ولا تجد منه إلا دهن العود وأرج المندل الهندي، وهكذا سائر العلماء الذين أدركتهم وخالطتهم.
أين هذا من أناس يؤذيك منهم وضر المنظر، وخبث الريح، إذا جالست عالماً، أو شهدت صلاة الجماعة، أو حضرت مجمعاً، لا تنفك تجد من بعض الواردين غمراً، أو درناً، أو خبثاً في ريح، أو انتشاراً في هيئة، وإذا نُصح أحدهم أجاب بجواب بعض المتصوفة حين قيل له: ألا تسرح لحيتك؟، قال: إني عنها لمشغول، [ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (193)].
لا ريب أن التساهل في النظافة والطيب خروجٌ عن حدِّ الإنسانية، وانحدار إلى أولى درجات البهيمية، زاد في الدروشة ما زاد، ذلك أننا نرى أن التنزه والتنظف والتطيب على جهة التمام من خصائص الآدميين الكُمَّل، وكلما كانت النفس أكمل كانت الريح المنبعثة منه أطيب، ولهذا إذا فارقت الروح جسد الإنسان أنتن، ومن ثم سمَّت العرب النسَم وهو الهواء الخارج من الفم ريحاً، لخروجه من الروح، فقاربوا بينهما بالاشتقاق لتقارب معنييهما، كما سموا ـ أيضاً ـ الدم الخارج من الإنسان: نفْساً، ويسمون المرأة إذا ولدت وخرج منها الدم: نفساء، لهذا المعنى.
ولهذا أيضاً كانت أجساد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أطيب الأجساد، وكان عرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطيب الطيب، جعلت أم سليم تسلت عرقه وتصبه في قارورة، تطيب به أبناءها، وذلك لطيب روحه الشريفة.
وكان نافع المدني القارئ إذا تكلم يُشم من فيه رائحةُ المسك، وكان أسود اللون، فقيل له: كلما قعدت تتطيب؟، فقال: "ما أمس طيباً ولا أقربه، ولكن رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام وهو يقرأ في فمي، فمن ذلك الوقت يُشم من فيَّ هذه الرائحة"اهـ[معرفة القراء الكبار؛ للذهبي (1/108)].
هذا؛ ولما كانت القِرَدَة أشبه شيء بتصرفات الإنسان؛ حتى إنها امتازت بالنباهة والفهم السريع مثله، وإذا أُلقيت في الماء غرقت كالإنسان الذي لا يحسن السباحة، لهذا الشبه كانت أشد البهائم تعاهداً لنظافة أنفسها، وكثيراً ما تُرى جماعات القردة ينظِّف بعضُها بعضاً، وتتفالى أي يفلي بعضها بعضاً.
نعم؛ إنه لتمرُّ على المرء أوقات يضطر إلى أن يخالط شيئاً من الدرن في ثوبه أو جسده، بسبب قدوم من سفر بعيد، أو إصلاح عطل في سيارته ونحو ذلك، فالواجب عليه أن يتحاشى اللقاء بالناس حتى يميط الأذى عنه، وقد انخنس أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن ملاقاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض الطريق، إذ كان جنباً، حتى قال له: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس "، كما في البخاري، على أن سيد ملائكة السماء جبرائيل ـ عليه السلام ـ قد علمنا كيف يكون قدوم المسافر، حين دخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر!.
والشريعة جاءت بالأمر بذلك على وجه الاعتدال والاقتصاد، فكما أن إهمال تعاهد البدن والثوب مذموم، فإن المبالغة في التنظف، والتشدد في الاحتياط فيه مذمومة أيضاً، لأنه حينئذٍ يكون وسواساً أو تنطعاً وتكلفاً، أو مضاهاة لليهود، وقد قال تعالى: { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [سورة ص(86)]، ولما دخل حذيفةُ وسلمان ـ رضي الله عنهما ـ على امرأةٍ أعجمية، قالا: أهاهنا مكانٌ طاهرٌ نصلي فيه؟، قالت: طهِّر قلبك، وصلِّ حيث شئت، فقال أحدهما لصاحبه: فقهت، [أخرجه ابن أبي شيبة (7/122)، ولعبد الرزاق نحوه (1/412)]، وقوله: فقهت: أي حين علمت أن طهارة القلب هي الأصل، لا أن طهارة المحل غير لازمة.
ومن العجب أنه يثور أحياناً جدال بين طلبة العلم حول اللبس الموافق للسنة، أهو الشماغ، أو الغترة، أو العمامة، والحق أنه ليس في الشريعة لباس خاص لأهل العلم والدين، أو زيٌّ مقدَّس كما نجده في بعض الديانات، ففي النصرانية هنالك زي خاص للقسوس والكرادلة ورجال الكنيسة، لا تتم طقوسهم إلا به، ويروون في العهد القديم: " واصنع ثياباً مقدسة لهارون أخيك "، كما في سفر الخروج، فأما في الإسلام فيلبس المسلم عالماً كان أو ليس بعالم اللبس المعتاد في بلده، والمهم فيها أن تكون طاهرة، وألا تكون ثياب شهرة وشذوذ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلبس ثياب قومه، نعم وجد في بعض مراحل التاريخ تخصيص لباس معين للفقهاء، كما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين وغيره، ولعلهم اتخذوا ذلك لمصلحة تمييز العالم من غيره، ليمكن للناس سؤاله والانتفاع بعلمه، والعادة أن يكون لباس العلماء واسعاً فضفاضاً، فإن اللباس الضيق أشد إظهاراً للروائح السيئة لو وجدت، وعلى كل حال فالأصل أن يلبس المرء لباس أهل بلده كما تقدم، وقد قرر أبو العباس ابن تيمية أنه ليس ثمة لباس لأهل الدين والولاية مخالف للبس العامة، وقال: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء، [مجموع الفتاوي (11/194)].
هذه دعوة إلى زكاء النفس، والثوب والنشر، والأخذ بالسنة النبوية الماضية في اقتناء أطيب الطيب، خصوصاً في المجامع وعند ملاقاة الآخرين، يضاف إلى هذا كله العناية بالمخبَر، إذ هو الأصل، ولما دخل عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج، قال له الحجاج: إنك لمنظراني، فقال عبد الرحمن: "نعم أيّها الأمير، ومخبراني "، والله المستعان.