عندما يغيب عنك أحد من المعارف أو الأصدقاء وتشاهده بعد مدة طويلة فإنك تقول: فلان لا يرى إلا مرة في السنة، أو مثل البدر لا يرى إلا مرة في الشهر، هذا المثل وبفعل الاحتلال وما تركه من رواسب وآثار سلبية في الماضي أصبح لدى الفلسطينيين بصيغة أخرى، وباللهجة العامية: (فلان ما بتشوفه إلا كل قتلة - أو موتة - يهودي)، تعبيراً عن ندرة رؤيته والتي توازي ندرة قتل اليهودي.
وعادة فإن الأمثال لا تتغير بل تبقى على ما هي عليه، لكن المجاهدين في فلسطين أبوا إلا أن يغيروا حقيقة هذا المثل، فأصبحنا نسمع وبشكل يومي مقتل يهودي أو إصابة آخر بفعل تلك العمليات والضربات المتنوعة التي يوجهها المجاهدون للاحتلال جنوداً ومستوطنين، واستطاعت المقاومة أن تغير الكثير من المفاهيم السلبية، والآثار السيئة التي حاول الاحتلال تكريسها خلال الحقبة الماضية.
المقاومة لم تكتفِ بتغيير الأمثال بل تدخلت حتى في تغيير الأسماء، فمن في فلسطين اليوم لا يعرف سعيد أبو غلوة؟! وقصته لمن لا يعرفها موجودة في شريط فيديو قصير ظهر فيه عباس (أبو مازن) مع عدد من مستشاريه وقادة الأجهزة الأمنية والمخابرات يأمرهم بقتل وإطلاق الرصاص على مطلقي الصواريخ من أفراد المقاومة، وهذا هو النص: " أبو مازن: وأنا بقول للمخابرات أول شي.. أي واحد بيشوف أي واحد حامل صاروخ.. يضربو.. يقتلو.. يطخو.. مليح هيك.. وإحنا مسؤولين" وحينها تعالت أصوات التصفيق، مما أز أحدهم للحديث أزاً، فقام المقدم/ سعيد وبحماس شديد، وقال: "عنا جيش بيسد عين الشمس... والله ما بيخذوا معنا غلوة... أنا في الميدان وعارف الصحيح"....
والمراد بأن عدد أفرد الأجهزة الأمنية كبير ومن المبالغة في التشبيه بأنه يُغطي الشمس، والقضاء على المقاومة الإسلامية (حماس وأخواتها) لا يحتاج من الوقت والجهد سوى مقدار غلي الماء (غلوة) وهي كناية فلسطينية عامية للتعبير عن سهولة الأمر وقصر الوقت اللازم لإنجازه.
الشاهد أن المقدم/ سعيد، أصبح اسمه اليوم سعيد (أبو غلوة)، فقد اكتسب اسم عائلة جديد، وذهبت هذه الغلوة لتصبح مثلاً شعبياً تتناقله الأجيال، فقد غدا (أبو غلوة) اليوم لدى الإخوة في حماس بعد سيطرتهم على غزة، والميدان الذي زعم أنه يعرفه جيداً ما كان إلا وهماً، والغلوة كانت بالعكس، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:45).
ما أشبه اليوم بالبارحة.. كثير من تلك المواقف والتصريحات تذكرنا بأحداث جرت مع رسولنا- صلى الله عليه وسلم- فقريش حينما خرجت يوم بدر وكان خروجها كما قال الله: {بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}(الأنفال:47)، وأقبلوا كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم:25)، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ لجرأة هؤلاء على قوافلهم، وعندما تلقوا رسالة من أبي سفيان بنجاة قافلتهم، قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلًا: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يـزالون يهابوننا أبدًا... ودارت رحى المعركة معركة بدر الكبرى يوم الفرقان.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من ينظر ما صنع أبو جهل؟) فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكَّار قتلنى، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: (الله الذي لا إله إلا هو؟) فرددها ثلاثًا، ثم قال: (الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه)، فانطلقـنا فــأريته إيـاه، فقال: (هذا فرعون هذه الأمة).
بماذا سنفسر كلام أبي جهل وإصراره على الحرب بكل كبر وعنجهية وصلف حتى آخر لحظة في حياته، ولا تفسير لقوله سوى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (مريم:83)، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (لأعراف:182).
هذا الجيش الذي يسد عين الشمس من كثرة عدده وعتاده وتلك الأموال الأمريكية والإسرائيلية ما أغنت عن القوم شيئاً، ولكنه تزيين الشيطان، وكما قال تعالى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ* إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:49)، لقد توافر لدى القوم كل عوامل النصر المادية والحسية حتى قالوا: {غر هؤلاء دينهم}... فجاء يوم الفرقان ليس درساً وآية للمؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل للأجيال كلها من بعدهم رضوان الله عليهم، لتستلهم العبرة ولتعلم بأن يوم الفرقان كان بين فئتين إحداهما اعتمدت على العوامل المادية والحسية والعددية، وتجاهلت العقيدة الراسخة في القلوب والإيمان بالله والتوكل عليه والاستنصار والاستقواء به عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160)، وهكذا كان على أصحاب الحق أن يجاهدوا أهل الباطل بعد الأخذ بالأسباب المتاحة والممكنة وليس عليهم الانتظار حتى تتساوى القوة المادية والحسية والعددية، لأن كفتهم هي الراجحة ولكن بما لم يحسب له أولئك أي حساب.
(غر هؤلاء دينهم) سنسمعها دائماً وبصيغها المتعددة: (متهورين) (يستفزون العدو) (صواريخ عبثية) (تنك) (مواسير) (هذه إسرائيل إلى أين أنتم ذاهبون؟!)... فالقوم لم ولن يدركوا ما تدركه المقاومة والمجاهدون، وهم يرون المقاومة وأفعالها ويصابون بالحيرة والعجب والدهشة على ماذا يعتمد هؤلاء ومن يمدهم بالقوة، تارة يزعمون أنها إيران! وتارة القاعدة! بل حتى قالوا تارة الموساد! ومن أغرب الأوصاف: (الاعتداء الصهيوحمساوي)!!... فهم لا يعلمون أن في قلوب المجاهدين الطاهرة الموحدة من الإيمان بالله ما يجعلهم يرون أن كل ما سواه ضعيف وخلق من خلقه، قال تعالى: {...ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}(محمد: من الآية4)، وفي قلوبهم من الغيرة على المسجد الأقصى وحرمات المسلمين ما يجعلهم يمضون سِراعاً في طريقهم غير مبالين بـ"الخاذلين" أو "المخالفين" وحالهم كما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال :" بأكناف بيت المقدس " أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني، وفي رواية: " لا يبالون من خالفهم أو خذلهم".
هذه المقاومة التي غيرت الأمثال والأسماء ومنها: (بهلول) و (أبو علي طحين) وغيرها، لم تتوقف مسيرة التغيير لديها بل استمرت لتطال جوانب أخرى، لقد صنعت لنا التاريخ تاريخ المجد والعزة والكرامة والتضحية والبطولة والشجاعة والفداء، لقد أصبحت أمل الأمة التي ترقب أفعالها وقلوبها تطرب وتبتهج وتفرح مع كل قتلة يهودي ومع كل عملية تقوم بها، كيف لا نفرح!، وقد قال عز وجل: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:14 -15).
المقاومة غدت منارة تضيء في ليل الأمة الحالك، وأحيت الأمل في النفوس، وأصبح حال كل من يحاربها أو يقف في طريقها كحال من يطفىء النور والناس بأمس الحاجة له، فهل سيتركونه يفعل هذا؟!.
وشفقة ورحمة بأولئك المتطاولين على المقاومة... أقول: ارحموا أنفسكم وحافظوا على أسمائكم لكي لا تكبر عائلة (أبو غلوة)... ولكي لا تكونوا ضمن (الخاذلين) أو (المخالفين)... جعلني الله وإياكم من الناصرين.