[email protected]
لفتت نظري وأنا أقرأ في الركن الإعلامي لأحد المؤسسات التربوية الميمونة صفحةٌ عن الإعجاز العددي في العدد "سبعة" من سورة الفاتحة، فدارت في نفسي خواطر أحببت أن أبثها إليكم عسى الله أن يُحِلَّ فيها البركة.
قال الرب - تعالى –: " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً" (الفرقان:1)، وقال المولى - جلَّ في علاه –: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (صّ:29).
إذن التدبر من أعظم مقاصد إنزال هذا الكتاب المجيد، ولكن هل التدبر ينصرف ابتداءً إلى الإعجاز الرقمي أو التقني؟، أم إلى ما هو ظاهر ومعلوم في كل زمان ومكان؟.
إن من منهج القرآن - أيها النبلاء - الاقتصارَ على المفيد في كل حادثة، فلا نجده يوغل في ذكر تفاصيل لا جدوى منها، تأمل معي قوله تعالى في قصة موسى "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى" (القصص: من الآية20) مَن هذا الرجل؟، ومِن أي القبائل؟ وما دينه؟ وهل له أولاد؟ وهل هو نفسه الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه أم غيره؟ وهل كان من بني إسرائيل أم من الأقباط؟.
كلُّ هذه أسئلة لو كانت مهمًّة لما أحْوجنا الله إلى أن نبحث عنها، ولو كان في معرفتها فائدة لما أخفاها الله عنًّا، ولو كانت من دين الله لكان ناقصا؛ لأنا لا نعلمها – والعياذ بالله -، ولو كانت من شريعة الله لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقَّ الناس بمعرفتها، وقد حُكي عن الإمام مالك أنه قال " شرُّ العلم الغريب"، وما ذاك إلا لكونه يثير الناس ويستهويهم من دون ما كبير فائدة.
والإجابة عن هذه الأسئلة من فضول العلم الذي ربما كان ضرره أكثر من نفعه، ويحصل لمن يسلك هذه السبيل من التخبط ما الله به عليم، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم المفسرين من آخرهم ابن سعدي - رحمه الله –.
لكن انظر لقوله – سبحانه - في الآية "مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" والتي دلَّت على صدق ذلك الرجل في النصح لموسى، وتجشمه الصعاب كونَه أتى من أقصاها ساعيا لما كانت مهمةً ذكرها الله – تعالى –.
وبالجملة فكل ما كان منه فائدة فقد ذكره القرآن، وما لا طائل تحته فلا يذكره.
ومن الظريف هنا ما ذكره شيخ الإسلام في مقدمة التفسير من اختلاف بعض العلماء حول "أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدَّتهم، وعصا موسى من أيِّ الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله عندها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم"..
و هذه القاعدة من أنفس قواعد التفسير بَلْهَ العلم كله، وحقيقٌ أن تُكتب بماء العين.
ذكر ابن عطية - رحمه الله - عند تفسيره لسورة القدر قولَ بعض المفسرين أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، ومن أدلتهم أن كلمة "هي" من الآية "سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر:5) رقمها سبع وعشرين، ثم علق رحمه الله بقوله "هذا من مُلَح العلم وليس من متينه".
ومن أكبر مشكلات طلاب العلم في الآونة الأخيرة عدم التفريق بين متين العلم ولطيفه وعُقَدِهِ ومُلَحِه.
إن المحزن حقيقةً أن نغفل عن إعجاز سورة الفاتحة في هدي " إياك نعبد وإياك نستعين " إلى نتف من العلم لا يُدرى على أي أساس أقيمت.
كلما يطرح هذا الموضوع وأمثاله أتذكر مشهد تلك العجوز التي رأت رجلاً يزدحم عليه الناس فقالت من هذا؟ فقيل لها هذا العالم الفلاني الذي أتى بمئة دليل على وجود الله!!. فقالت والله لو لم يكن عنده مئة شك ما أتى بكل هذا!!. أيحتاج هذا إلى إثبات أصلاً.تنكر عليه هذا التمحُّل.
كثيرة هي الأمور التي تُضخم لنا أو نسهم في تضخيمها وفي حقيقتها خواء.
ومع يقيننا بحسن نيات من اهتم بأمر الإعجاز ونبل مقاصدهم، إلا أن ذلك لا يعني صواب ما يقولونه ولا عدم استدراك ما يكون في هذا العلم مما ينُدُّ عن جادَّة السلف، وهناك جُمْلةٌ من الإشكالات في تفسير القرآن بالإعجاز أو البحث عن الإعجاز في القرآن من أهمها ما يلي:
أنه تفسير بالرأي، وله قواعد معلومة قد لا تتوفر في كثير من تلك التفاسير، بل قد يكون في بعضها مخالفة لتفسير مأثور أو غيره من قواعد التفسير، وقد يتولى القول به من لا علم له بالتفسير.
جمعٌ من المهتمين بالإعجاز يرصد أدنى شيء له تعلق باكتشاف جديد، فيحمل معنى الآية عليه " وصدَّقَ ما يعتادُهُ من توهمِ "
فيه إشغال للناس بالغرائب عن المقصود من إنزال القرآن وهو تدبره والعمل به، ومخالفة لمنهج السلف كما كان طوائف منهم يقولون:
"كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نَعْلَمَها ونعملَ بها ونُعَّلِّمَها" وهذا الإعجاز وإن كان ناتجا عن تدبر إلا أنه ليس بالتدبر الذي سار عليه السلف.
قد يُجزم فيه بأمور تكون محل نظر، ويتبين فيما بعد عدم صحتها فيكون كتاب الله – تعالى – محلا للتَّنَدُّر والسخرية وقابلا لأن يُحْكم عليه بالصحة والخطأ – عياذا بالله –
من المؤسف أن كثيرا ممن تصدى لهذا العلم ليس لديه بضاعة تُسْعِفُه، ومن ثَمَّ كان اجتهاده مذموما، وهو ما يقابل الاجتهاد المحمود ممن ملك آلته، وقد قيل " من تكلم في غير فَنِّه أتى بالعجائب ".
التكلف الظاهر وليُّ أعناق النصوص من أجل إثبات إعجازٍ حديثٍ أو حقيقةٍ علمية.
جعلوا القرآن يُحْتَجُّ له بدلا من تحكيمه وهيمنته على غيره والاحتجاج به، قُلِبَت الموازين، وما ذاك فيما أُرى إلا من الهزيمة النفسيَّة، والمسايرة غير الواعية للتقدم والله المستعان.
إن الإعجاز العلمي يرسخ مفهوم التبعية من غير قصد لكل ما يأتي به الغرب وما يتوصل إليه من علوم حياتية، وينمي القيل والقال بدلا من العمل.أليس الأولى أن تسخر الأمة طاقتها للعمل والتقدم في العلوم الحياتية التي بها تكون متبوعة لا تابعة؟
فَهْمٌ غير سوي لقوله تعالى: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" (الأنعام: من الآية38) فهم يفهمون أن القرآن حوى كلَّ دقيق وجليل من علوم الدارين بتفاصيلها، ومن وفقه الله أطلعه عليه، وهذا ليس بصحيح ولكن معنى الآية قيل في معنى الكتاب "الكتاب والسنة" وقيل بل في الدلالة على كلِّ شيء ووضع منهج الحياة، وكتاب الله يُنَزَّه عن القول بأنه حوى كل أمر تفصيلي على هذا الفهم.
الدافع لكثير ممن تصدى لهذا العلم أمور (إثبات عظمة القرآن – مسايرة التقدم التقني – إسلام عدد من الكفار بسبب هذه التفاسير)
ولا ريب أن كلام الله عظيم وفيه من المعجزات ما تفنى دون تحصيله الأعمار، وقد وصفه العظيم بأنه عظيم قال سبحانه: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" (الحجر:87)، فهل تبقى بعد ذلك حاجة إلى إثبات العظمة بأفضل من هذا الطريق؟! "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ" (قّ: من الآية45).
وهل مسايرة التقدم التقني والحضارات الغربية وإسلام عدد من الكفار تُسوِّغ لنا أن نستجيب لما يريدون وإن كان ذلك لا يتوافق مع مبادئنا؟. وما نسبة أولئك الذين أسلموا بسبب الإعجاز بالنسبة إلى من أسلم بغير هذا السبب؟.
باتت قضيَّة الإعجاز العلمي من القضايا الساخنة في الأوساط العلمية ما بين مد وجزر حتى في تسميته بالعلميّ إلا أن هناك من وضع له ضوابط من أبرزها:
عدم مخالفته لتفسير السلف
عدم مخالفته للغة العرب
عدم مخالفته لسياق الآيات
ولو سَلِم الإعجاز العلمي من كل هذا فإنه يظل مرتبةً متأخرة، ومن المقرر عند علماء الأصول أن حملَ النص العام على ما كان عاما في كل زمان ومكان أولى من قصره على زمان أو مكان معيَّن أو على قليلٍ من أفراده؛ لأنه يخالف معنى العموم، والمهتمون بالإعجاز وإن لم يقولوا بتخصيص النص بما ظهر من الإعجاز إلا أن عددا منهم يقدمونه على المعنى الذي يمكن تعميمه، وربما أوَّلوه ليستقيم لهم أمر الإعجاز.
ومن المصادفات الجميلة أني عثرت على نص ثمين للإمام ابن سعدي - رحمه الله – بعدما كتبت هذا المقال حول البحث عما تقل فائدته أو تكون معدومة أو ربما كان من الضرر الخوض فيه فقال في تفسيره لصدر سورة يوسف عند قول الله – تعالى – " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ": " واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله – صلى الله عليه وسلم – أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة، وبسطها وذكر ما جرى فيها، فعُلم من ذلك أنها قصةٌ تامةٌ كاملةٌ حسنة،فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سندٌ ولا ناقل، وأغلبها كذب، فهو مستدرِكٌ على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص وحسبك بأمرٍ ينتهي إلى هذا الحد قبحاً، فإن تضاعيف هذه السورة قد مُلِئت في كثير من التفاسير من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصَّه الله تعالى بشيء كثير، فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصَّه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يُنقل "ا.هـ.
هكذا أنظر إلى الإعجاز العلمي، وربما كنت هنا ممن يمثل المنطقة السوداء في نظر البعض،و أنا أطلب ممن يهتم بقضية الإعجاز العلمي أن يتأمل في كيفية التعامل معه ويعيد النظر في ذلك.
وعلى كل حال فليست الآراء حكرا على أحد فمن رأى أن الإعجاز باب يخدم الدين من خلاله فليعمل على مايراه ومن لم ير ذلك فليخدم دين الله بما في وسعه، ولا بأس بطرح القناعات وتداولها ومناقشتها في جو هادئ، وإنما هذه خواطر وردت للخاطر آثرت أن تخرج إلى فضاء القراء.
ولا يفوتني في الختام أن أحيل القارئ إلى عدة مقالات كتبها د.مساعد الطيَّار حول هذا الموضوع بعناوين مختلفة في كتابه (مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير) فقد استفدت منه كثيراً..
و الله الهادي.