أزف نجم الشهر المبارك على الأفول، وتهيأ الزائر الكريم للرحيل، ليسجل في سجل الفناء الذي كتبه الله على جميع خلقه، وأخبر عنه قائلاً: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ" (الرحمن:26، 27)، خسر في هذا الشهر الكريم من خسر، وربح فيه من ربح، ما أسرع ذهابك يا رمضان، وصدق القائل جل وعلا : "أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ" (البقرة: من الآية184)، نعم إنها أيام معدودات عشناها وهي الآن تلوح مودعة من صامها ومن أفطرها ومن قامها ومن نامها.
إن في مر السنين مر السحاب عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، تنقضي الأشهر والأعوام ونحن عنها غافلون حتى تمر لحظة و لا بد لكل واحد منا أن تمر به تلك اللحظة التي تتوقف فيها مسيرة حياته وتننتهي فيها فرصة العمر، وما أشبه فرصة رمضان بفرصة العمر كله، سوى أن من فاتته فرصة رمضان وبقي في العمر بقية باستطاعته أن يتدارك التقصير ويجبر التفريط أما من فاتته فرصة العمر فما عساه أن يفعل؟ قال الله تعالى مخبراً عن أولئك المغبونين في أعمارهم: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون:99، 100).
إن فرصة رمضان تشرف على الانتهاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له"(1) ورمضان جزء من فرصة العمر، فالحياة أوسع من رمضان فإذا كان من خسر رمضان رغم أنفه فماذا يقال عن من خسر عمره، قال الله تعالى: "إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ" (الشورى: من الآية45).
إن انتهاء رمضان يجب أن يجدد عندنا العزم على أن نصلح أنفسنا وتستقيم أحوالنا بعد هذا الشهر الكريم، حتى لا نستمر في تضييع الفرصة الكبرى، فرصة العمر التي هي أكبر من فرصة رمضان.
والمؤسف أن كثيراً من المسلمين تستقيم حاله في رمضان فلما ينقضي يجعل من أول أيام العيد يوم انتقام من الطاعات، ويبدد كل ما حصله في الشهر الكريم من الحسنات في أول ساعات العيد بما يقع فيه من المخالفات، لسان حاله كما قال من فسد ذوقه وقل ورعه:
رمضان ولى هاتها يا ساقي | مشتاقة تسعى إلى مشتاق | |
بالأمس قد كنا أسارى طاعة | واليوم مَنَّ العيد بالإطلاق |
إن علامة قبول الله تعالى لطاعات العبد في رمضان أن يستقيم على الهدى بعد رمضان لأن علامة قبول الطاعة الاستقامة والمواصلة في خطها لا الرجوع إلى ما يزيلها ويمحو أثرها.
والعاقل الفطن يستثمر الفرص أكمل استثمار وأتمه، فعلى المسلم أن يظل مجتهداً في الطاعة مشمراً عن ساعد الجد حتى آخر لحظة في رمضان، وعليه بعد رمضان أن ينطلق انطلاق من تزود بالإيمان ليواصل استثمار فرصة العمر.
______________
(1) الترمذي، 5/550، (3545).