من أنباء المتسابقين 2
1 شوال 1428

مضت أيام الشهر ومراحله وكلما مضت مرحلة حزن الجادون فيه وفرح القاعدون عنه ، حتى أتى نصف الشهر فاغتم العاملون فيه أيما اغتمام وحل بهم هم عظيم ، كيف وبهذه السرعة العجيبة مضى الوقت ، نعم مضى والله سبحانه قال عنه ( أياماً معدودات ) فإذا كان هذا حاله فلما لا يمضي سريعاً .

ووقف أحد المتسابقين مذكراً كل من كان في الميدان قائلاً : هذا عباد الله شهر رمضان قد انتصف فمن منكم حاسب فيه نفسه لله وانتصف ؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف ؟ من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفاً من فوقها غرف ؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به وقد انصرف .

فزاد من زاد في العمل ورغب من رغب كثير الأجر حتى أتت عليهم المراحل الأخيرة من السباق والتي تعتبر الكنز المبذول والهبة الممنوحة لكل من جد لأجلها ، فلننظر إلى المتسابقين وهم يدخلون عشرهم الأخيرة .

انطلقت تلك الجموع الغفيرة إلى حيث المراحل العشر الأخيرة ، انطلقت وفي داخلها حادٍ يحدو ويقول لها : يا نفس إنما هي عشر مراحل قد يقال لك بعدها اصنعي ما شئت من جديد فقد بدلت سيئاتك حسنات ، يا نفس في إحدى المراحل مرحلة تساوي عبادة ألف شهر ومن هذا الذي سيعيش عمراً مديداً يصفو له زمن العبادة مفرداً ألف شهر ، وتذكري يا نفس أنها عشرة أيام لا تساوي شيء في حساب العام بل لا تساوي شيء في عمر الخليقة كلها .

وصاح صائح من الجموع مذكراً وقائلاً : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ". بل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره " .

فأنظر يارعاك الله عن تلك الجموع وهي تتوافد زرافاتٍ و وحدان إلى المراحل العشر الأخيرة من السباق إلى حيث عصارة الشهر وقلبه النابض .

وعند مدخل تلك المراحل نصبت ثلاث لوحات قد كتب على كل واحدة منها عبارة ، فالأولى كتب عليها : سئل الإمام أحمد متى يجد المؤمن طعم الراحة ، قال : عندما يضع قدمه الأولى في الجنة . وكتب على الثانية : يقول ابن الجوزي : من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف . وأما الثالثة فقد كتب عليها : يقول عمر بن عبد العزيز : لا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى .

كانت تلك الألواح الثلاث وما في النفس من حاديٍ يحدوا كلها مما زاد همة المتسابقين ورفع من نشاطهم علهم يدركون فيها ما لم يدركوه في غيرها .

فليت شعري كيف لو رأيت طول القيام وأنين الدعاء وبكاء السحر ، كيف لو رأيت القلوب الخاشعة الدامعة في الإفطار وآخر الليل ، كيف لو رأيت جموع المصلين وقد غص بهم المسجد أو لو سمعت دويهم بالقرآن وهو يرجون الرحيم الرحمن ، بل لا تسأل عن بكائهم وتضرعهم في القنوت وعند السحر .

بل لا تسأل عن الندم والتوبة التي قُطعت على النفس والحياء والانكسار من الرحيم الغفار . مناظر مشرفة تأخذ باللب ، ومشاعر مؤثرة ترقق القلب فاللهم اغفر لهم وأرحمهم .

وما زال المتسابقون يجرون في مضمار السباق ويقطعون المراحل فحدا الحادي لهم ورفع صوته قائلاً :

ترحـل الشهر والهفاه وانصرما

واختص بالفوز في الجنات من خدما

وأصبح الخاسر المسكين منكسراً

مثلي فيا ويحــه يا عُظم ما جُرما

من فاته الزرع في وقت البذار فما

تـراه يحصـد إلا الهم والندمـــا

فزاد وجل قلوبهم ووقعت الحسرة لمن لم يدرك من هذا الشيء شيئاً وبدأت الدقات تتابع والأنفاس تتردد حتى خرجت من أحدهم الكلمات قائلاً : -

رمضان ترفق ، دموع المحبين تدفق ، قلوبهم من ألم الفراق تشقق ، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق ، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كل ما تمزق .

ثم ثم ماذا ، ثم أتت الطامة على قلوب المتسابقين أتت الفاجعة عليهم حين أعلن أن هذا الشهر قد ترحل وأن أيامه ولياليه تصرمت ، فلا تسأل عن حال الجادين فيه وكأنهم من بكائهم كالثكلى النائحة .

كان علي رضي الله عنه في آخر ليلة ينادي من شهر رمضان : يا ليت شعري ! من هذا المقبول فنهنيه ؟ ومن هذا المحروم فنعزيه . لقد كان خروج هذا الشهر الكريم مؤلماً وموجعاً على قلوب الصائمين ، كيف لا وقد انتهت الليالي الفاضلة والأوقات المباركة . انتهى السباق بكل مراحله وجوائزه وعطاياه .

سـلام من الرحمن كل أوان * على خير شهر قد مضى وزمان

سـلام على شهر الصيام فإنه * أمـــان من الرحمن أي أمان

لئن فنيت أيــامك العز بغتة * فما الحزن من قلبي عليك بـفان

أنظر إلى المتسابقين وهم يودعون هذا الشهر الكريم بذلك النشيد الخالد والنداء المعبر امتثالا لقوله تعالى : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ) كانوا يقولون : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد . يرفعون بها أصواتهم في المنتديات والبيوت والأسواق وهم بذلك تسابقهم دموعهم لأنهم ودعوا حبيبهم ، ودعوا مؤنسهم ، ودعوا مقربهم إلى ربهم وهم لا يعلمون هل يهل عليهم هلاله مرة أخرى أم لا ؟ هل يصلون التراويح مرة أخرى أم لا ؟

أما الصنف الآخر من المتسابقين الذين لم يكن لهم هم خلال السباق إلا تجزية الوقت كيفما اتفق وهم لا يحصدون من جوائز السباق إلا النذر اليسير ، أنظر إليهم عندما أعلن عن انتهاء السباق وكيف هي الفرحة هلت عليهم وكيف السرور غمرهم وذلك لأنهم سوف يتخلصون من الجوع والقيام ، بل الأعظم من ذلك سوف يطلق نظرائهم من الشياطين من أسرهم ويلتقي كل قرين بقرينه.

إخواني المتسابقين الصائمين كان ذلك السباق هو شهر رمضان المبارك وكنا نحن المتسابقين فيه ، فمقل ومستكثر ونشط وكسول وكان حالنا فيه كما قد عرفتم وكل حسيب نفسه .

يقول الحسن البصري : إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته ، فسبق قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابوا .

وإن المرء ليتسائل أين هم أولئك المتسابقون الآن ، أين الطاعات وأين القربات ، هل أولئك أناس أحضروا بتأشيرات خاصة لهذا الشهر الكريم أم أنهم احضروا من كوكب آخر ؟ !

ولنا هنا وقفتان اثنتان :

الأولى وهي ما وجبنا تجاه رمضان الفائت . إن أهم وأولى ما يكون على المؤمن تجاه رمضان هو رجاء القبول من الله عز وجل وذلك لأن المعول على القبول لا على الاجتهاد ، والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان .

ولقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده ، وهؤلاء الذين ( يؤتون ما أتوا وقلوبكم وجلة ) .

ولذلك عندما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) . قالت : يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون ويشربون الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم .

ولذلك عندما فقه السلف هذا الأمر أثر هذا على صيام رمضان فكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ، ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبله منهم .

إخواني لقد كان قبول العمل هاجساً لدى السلف الصالح لأنهم يعرفون أن قبول العمل هو الغاية وهو المعول عليه .

لقد قرأنا في كتاب الله تعالى قول إبراهيم وابنه عندما كانا يبنيان البيت : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) فإذا كان إبراهيم عليه السلام وابنه قد شرفهما الله بهذه المكانة ألا وهي بناء البيت يقولان هذا ويخافان ألا يتقبل منهم فكيف بنا نحن والله المستعان .

روي عن علي رضي الله عنه ، قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ، وعن فضالة بن عبيد ، قال : لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها .

وقال عبد العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا وقع عليهم الهم ، أيقبل منهم أم لا .

كان أبو هريرة يقسم الليل ثلاثاً بينه وبين ابنه وزوجته هذا في الأيام العادية فكيف في رمضان ، جاء رمضان وصام وقام قال في آخره : اللهم إني قد جئتك بصيام مرقع فتقبله مني . فماذا نقول نحن والله المستعان .

ومحمد بن إدريس الشافعي كان يختم في رمضان كل يوم ختمتين وفي آخر عمره يقول : أصبحت من الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ، ولسوء عملي ملاقياً وعلى الله وارداً ، ما أدري روحي تصير إلى جنته فأهنيها أو إلى النار فأعزيها ثم بكي وأنشأ يقول :

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت رجائي دون عفوك سلماً

تعاظمني ذنبي فلما قرنتـــه

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل

تجود وتعفو منةًّ وتكرمــاً

أما الوقفة الثانية فهي مع الاستقامة على الطاعة بعد شهر رمضان وهو الأمر الذي أقلق المتسابقين وأزعج الصائمين ، إنه الأمر الذي ما زال يطرح الأئمة والخطباء والأمر المعتاد أن يقال بعد هذا الشهر المبارك .

ولذلك فإنه ما وجد للمرء لأجل الاستقامة على الطاعة بعد رمضان مثل علو الهمة وقوة العزيمة ، لأن عالي الهمة لا يتوقف أمامه شيء لأجل أن ينال مطلوبه .

وإذا كنت أيها الصائم المتسابق في شهر رمضان في ميدان سباق حصدت فيه الجوائز وقطعت فيه المراحل ، فلما لا تجعل الحياة كلها ميدان سباق إلى الآخرة وأجعل نفسك الأمارة عدواً لك تتحداه وستجد إنك ستستمر على الطاعة حتى بعد رمضان .

ولقد فقه سلفنا الصالح هذا المر فجعلوا الحياة كلها ميدان سباق والفوز فيها غاية لا يرضون عنها بديلاً .

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى :

لما سمع القوم قول الله عز وجل : " فاستبقوا الخيرات " وقوله " وسابقوا على مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض "، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم ان يكون السابق لغيره إلى هذه الكرامة ، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملاً يعجز عنه خشى أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له فيحزن لفوات سبقه ، فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها ، ثم جاء من بعدهم قوم فعكسوا الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنيئة وحظوظها الفانية " .

قال الحسن رحمه الله تعالى : إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسة في الآخرة .

وقال وهيب بن الورد : إن استطعت ألا يسبقك إلى الله احد فأفعل .

أخي الصائم :

لما علم الصالحون قصر العمر ، وحثهم حاديٍ وسارعوا طووا مراحل الليل مع النهار التهاباً للأوقات . أصغ سمعك لنداء ربك " ففروا إلى الله " وبادر طرّ صحيفتك ، واحسر عن رأسك قناع الغافلين وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غداً ، فإن الدنيا ميدان المتسابقين .
واعلم إنما خلقنا لنحيا مع الخالق ، ونافس في الفردوس فإن الرحمن جل جلاله قد غرس غراسه بيده .

أخي المتسابق :

لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية ، والهمم العالية وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذان واعية ، واسمع الله من كان حياً فهزه السماع إلى منازل الأبرار ، وحدا به في طريق سيره فما حطت به رحاله إلا بدار القرار .

( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )

هو مطلب يستحق المنافسة وهو أفق يستحق السباق وهو غاية تستحق الغلاب .

والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فانِِ قريب ، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه، فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة والمسابقة .

أخي الصائم :

كن كالسلف كانوا ينافسون ويسابقون ولم يكن منهم التوقف البتة لأن التوقف ممنوع شريعة وطبيعة كما يقول ابن القيم .

هذا ثابت البناني يقول كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة .

وابن المنكدر يكابد نفسه أربعين سنة حتى استقامت .

وإبراهيم الحربي يقول : صحبت أحمد بن حنبل عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً برداً وليلاً ونهاراً فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس .

وربيعة بن زيد يقول : ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد .

فاللهم كم من نعمة أنعمت بها عليّنا قل لك عندها شكرنا ، وكم من بلية ابتلينا بها قل لها عندك صبرنا ، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا ، ويا من رآنا على المعاصي فلم يفضحنا ، نحن عبيدك ، متصرفون على إرادتك ، متقلبون بين مشيئتك وحكمك ، مترددون بين قدرتك وحكمتك ، آملون عطفك ورحمتك ، معترفون بسوابغ إحسانك ونعمتك ، خائفون من عواقب سطوتك ونقمتك ...

إلهنـا :

يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمائر الصامتين .

يا من ليس معه رب يُدعى ويا من ليس فوقه خالق يُخشى ، ويا من ليس له وزير يؤتى ولا حاجي يُرش .

يا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا جوداً وكرماً وعلى كثرة الحوائج إلا تفضلاً وإحساناً ..

لا قوة على طاعتك إلا بإعانتك ولا حول عن معصيتك إلا بمشيئتك ولا ملجأ منك إلا إليك ولا خير يرجى إلا في يديك .

نسألك يا أكرم الأكرمين أن تتقبل صيامنا وقيامنا وأن تجعل حالنا بعد رمضان خيراً من قبل رمضان .

اللهم أرزقنا صيامه أعـوام عديدة وأزمنة مديدة وأجعل ما نستقبل من أعمارنا خيراً مما مضى .



إخواني وقبل الختام :

كأني شهر رمضان المبارك يطل علينا ويقول :

أيها الصائمون تقبل الله صيامكم وقيامكم: " إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " .

ثم الصلاة على نبينا محمد خير هادي ، زينة الحواضر والبوادي ، ما أرتفع في السماء صوت المنادي وانشد بالنشيد الحادي