الحمد لله وحده، وصلاةً وسلاماً على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد كثرت الأسئلة والنقاشات حول حكم الأموال المحرمة التي تاب المسلم وهي عنده وثارت نقاشات في أوساط طلاب العلم حول رأي شيخ الإسلام إزاء هذه المسألة، فمن قائل بأنه يرى تمليك التائب تلك القبوض والأموال المحرمة، ومن قائل خلاف ذلك.
ومهما يكن من أمر فإن الجميع متفقون بأن العبرة بالدليل لا بالرجال، فمن ظفر بالدليل فالحق معه، والقاعدة المقررة أن: (أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها)، وقد قال شيخ الإسلام نفسه: (وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية) (1)، ولكن هذا كله لا يمنع من تحقيق القول في رأي هذا العالم؛ لما له من ثقل ووزن في الفقه الإسلامي، ولما لآرائه من الاحترام والتقدير عند ذوي الشأن وطلاب العلم وسائر المؤمنين.
ومن خلال التتبع والبحث وجدت أن الخلاف الواقع بين أوساط طلاب العلم في بيان رأي شيخ الإسلام راجع في الغالب إلى الاعتماد على موضع واحد من كلامه.
والمنهج العلمي الصحيح لاستخراج آراء العالم في المسائل المشكلة إنما يكون باستقصاء كلامه في عامة كتبه، وبهذه الطريق يمكن لطالب العلم أن يصل إلى رأي العالم، مما قد يقف من خلاله إلى أكثر من رأي، وهذا طبعي حصوله من العلماء، خاصة من مثل هذا العالم الذي حاز لقب شيخ الإسلام على مر التاريخ؛ لفضله وجهاده وغزارة علمه وكثرة كتبه والظروف والأحوال التي مر بها.
ولما رأيت كثرة النقاش حول رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة حاولت جهدي أن أحقق القول في بيان رأيه عن طريق تتبع كلامه في عامة ما كتبه حول هذا الموضوع في (مجموع الفتاوى) و(اقتضاء الصراط المستقيم)، وما نقله عنه تلميذه ابن القيم في (زاد المعاد) و(أحكام أهل الذمة) و(مدارج السالكين)، ثم بعد ذلك تلخيص آراءه وإثبات ذلك الرأي من كلامه بالجزء والصفحة.
وبعد التتبع لما كتبه في كل ما يمت إلى الموضوع بالصلة وجدت أن له قولين في المسألة،وحرصت أن أضع القارئ الكريم على أقوال الشيخ مجموعة بين يديه ليقارن بنفسه، وإليك بيانها بالتفصيل.
القول الأول:
أن الأموال المحرمة والقبوض الفاسدة وخاصة الربوية تملك بعد التوبة، ويقر عليها صاحبها، وتنقلب له حلالاً حتى لو كان عين المال المحرم باقياً وبيده بعد التوبة، فإنه يطيب له أيضاً، ولا يجب عليه رده لصاحبه، ولا التخلص منه، وهذا الرأي هو المشهور عن شيخ الإسلام في هذه المسألة، ومن نَسَبَ إليه هذا القول إنما اعتمد في ذلك على ما ذكره في كتابه (تفسير آيات أشكلت)(2) وأول المجلد (الثاني والعشرين من مجموع الفتاوى)(3).
وإليك كلامه في الموضعين:
قال في (تفسير آيات أشكلت): (وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل، ولا يعلم أن ذلك رباً محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم)(4)، وهذا النوع الثالث هو الذي يخصُّنا ثم قال بعد ذلك بصفحات: (والكافر إذا قبضه لكونه قد تاب فالمسلم أولى بطريق الأولى، والقرآن يدل على هذا بقوله: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ)) (5) وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فقد جعل الله له ما سلف، ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا )) فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم برد ما قبضوه، فدل على أنه لهم مع قوله: ((فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ))) (6) والله يقبل التوبة عن عباده، فإذا قيل: هذا مختص بالكافرين، قيل: ليس في القرآن ما يدل على ذلك، إنما قال: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ)) (7) وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى)(8) ثم قال بعد ذلك بصفحات – وهي أصرح مما سبق-: (بل قد يقال: إن هذا يتناول من كان يعلم التحريم إذا جاءته موعظة من ربه فانتهى، فإن الله يغفر لمن تاب بتوبته، فيكون ما مضى من الفعل وجوده كعدمه، والآية تتناوله((فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ))) (9) ويدل على ذلك قوله بعد هذا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)) (10).والتوبة تتناول المسلم العاصي ، كما تتناول الكافر ...وهذا وإن كان ملعوناً على ما أكله وأوكله، فإذا تاب غُفر له، ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه وتقلب، وقد يكون أكله ولم يبق منه شيء ، وقد يكون باقياً، فإن كان قد ذهب وجُعِل ديناً عليه كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفراً عن التوبة... وإن كان عين المال باقياً فهو لم يقبضه بغير اختيار صاحبه كالسارق والغاصب بل قبضه باتفاقهما ورضاهما بعقد من العقود، وهو لو كان كافراً ثم أسلم لم يرده، وقد قال تعالى: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)) (11)
ثم قال مبيناً صعوبة هذه المسألة ودقتها (وهذه المسألة تحتاج إلى نظر وتحقيق، وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو ما قبضه بتأويل أو جهل فهنا له ما سلف بلا ريب كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر ، فإنه قد يقال: طردُ هذا أن من اكتسب مالاً من ثمن خمر مع علمه بالتحريم، فله ما سلف، وكذلك كل من كسب مالاً محرما، ثم تاب إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغي، وحلوان الكاهن ، وهذا ليس ببعيد عن أصول الشريعة، فإنها تفرق بين التائب وغير التائب...) (12) فيلاحظ من كلامه هنا أنه لم يجزم في هذه المسألة، وعبّر عنها بـ(قد يقال)، وأن (المسألة تحتاج إلى نظر وتدقيق)ثم قال: (وأما الربا فإنه قبض برضا صاحبه والله سبحانه يقول: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)) ولم يقل فمن أسلم ولا من تبين له التحريم بل قال: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ)) والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم مما تكون لمن لم يعلمه قال الله تعالى: ((يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين)) وقال: ((أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا))
وأما المقطع الثاني من كلامه في مجموع الفتاوى فأسوق للقارئ ما يبين رأيه في هذا الموضع إذ يقول: (فصل: ولكن النظر في فصلين: أحدهما من ترك الواجب أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلا وإعراضا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو أنه سمع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضا لا كفرا بالرسالة فهذان نوعان يقعان كثيراً من ترك طلب العلم الواجب عليه حتى ترك الواجب وفعل المحرم غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك ولم يلتزم إتباعه تعصباً لمذهبه أو إتباعاً لهواه فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي كما ترك الكافر الإسلام فإن الاعتقاد هو الإقرار بالتصديق والالتزام فقد يترك التصديق والالتزام جميعاً لعدم النظر الموجب للتصديق وقد يكون مصدقاً بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم إتباعاً لهواه فهل يكون حال هذا إذا تاب وأقر بالوجوب والتحريم تصديقاً والتزاماً بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب قبلها كما إن الإسلام يجب ما قبله فهذه الصورة أبعد من التي قبلها(13) فإن من أوجب القضاء على التارك المتأول وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور فعلى هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى، وأما على القول الذي قررناه وجزمنا بصحته(14) فهذا فيه نظر، قد يقال هذا عاص ظالم بترك التعلم والالتزام فلا يلزم من العفو عن المخطئ في تأويله العفو عن هذا وقد يقال وهو أظهر في الدليل والقياس ليس هذا بأسوأ حالاً من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبراً وحسداً وهوى أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله ولكن جحد ذلك ظلماً وعلواً كحال فرعون وأكثر أهل الكتاب والمشركين الذين لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون والتوبة كالإسلام فإن الذي قال الإسلام يهدم ما كان قبله هو الذي قال التوبة تهدم ما كان قبلها وذلك في حديث واحد من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم، فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي والحسنات يذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفيره عن الدخول؛ لما يلزم الداخل فيه من الآصار والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي، فهذا المعنى موجود في التوبة عن الجهل والظلم ، فان الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات، وفى عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة، على ظاهر قوله (يبدل الله سيئاتهم حسنات)، فإذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلا، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه فلا يُجعل تاركا لواجب ولا فاعلا لمحرم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية فان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها...) (15) إلى أن قال:(فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي وقد لا يصوم أيضا ولا يبالي من أين كسب المال أمن حلال أم من حرام ولا يضبط حدود النكاح والطلاق وغير ذلك فهو في جاهلية إلا أنه منتسب إلى الإسلام، فإذا هداه الله وتاب عليه فإن أُوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات وأُمر برد جميع ما اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الأبضاع إلى غير ذلك صارت التوبة في حقه عذاباً، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام الذي كان عليه؛ فإن توبته من الكفر رحمة وتوبته وهو مسلم عذاب، وأعرف طائفة من الصالحين من يتمنى أن يكون كافراً ليسلم فيُغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة، وهو شبيه بالمؤيِّس للناس من رحمة الله ووضع الآصار ثقيلة والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله الذي به قوامه بعد اليأس منه، فينبغي لهذا المقام أن يحرر فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات لكون الكافر كان معذوراً بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف، وإنما غفر له لأن الإسلام توبة، والتوبة تجب ما قبلها والتوبة توبة من ترْك تصديق وإقرار وترْك عمل وفعل، فيشبه -والله أعلم- أن يُجعل حال هؤلاء في جاهليتهم كحال غيرهم)(16).
وعلى رأي شيخ الإسلام في هذا القول فإنه ينسحب على كل تائب كالمغني والمغنية والبغي والنائحة والمرابي وغير ذلك كل هؤلاء بعد التوبة تحل لهم أموالهم المقبوضة بعقود فاسدة وهذا الرأي يخالف رأيه الثالث الذي يأتي بيانه بعد قليل.
القول الثاني:
أنه لا يملك المال الحرام والمقبوض بعقد فاسد.
واختلف قول الشيخ هنا في حكم المال بعد ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجب رده إلى صاحبه فيرد الربا على من أربى عليه ويجب على كلا الطرفين رد ما أخذه فيرد المشتري السلعة، ويرد البائع الثمن، فإن لم يستطع رد المقبوض تخلص منه بأن يتصدق به ويصرفه في مصالح المسلمين، وهذ الرأي لشيخ الإسلام وقفت عليه في أكثر من موضع وإليك كلامه في هذا:
الموضع الأول: قال في اقتضاء الصراط المستقيم: ( المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين، فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه)(17) ولم يفرق بين التائب وغيره.
الموضع الثاني: قال في مجموع الفتاوى: ( والواجب رد المال المقبوض بالمعاملة الربوية الفاسدة إن كان باقياً، وإن كان فانياً رد مثله ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك ...)(18).
الموضع الثالث: وقال أيضاً في مجموع الفتاوى عن العقود والقبوض المحرمة كالربا والميسر ونحو ذلك: ( والواجب على من حصلت هذه بيده ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم)(19) ولم يفرق أيضاً بين التائب وغيره.
الموضع الرابع: وهو أصرح المواضع حيث قال في المرابي التائب إنه يرد الربا على من أربى عليه أي إلى صاحبه فقال: ( الأموال التي تعذر ردها إلى أهلها لعدم العلم بهم مثلاً، هي مما يصرف في مصالح المسلمين عند أكثر العلماء ، وكذلك من كان عنده مال لا يعرف صاحبه كالغاصب التائب والمرابي التائب ونحوهم ممن صار بيده مال لا يملكه ولا يعرف صاحبه فإنه يصرف إلى ذوي الحاجات ومصالح المسلمين)(20) فنلاحظ هنا أنه لم يقض للتائب بملكية ما سلف من الأموال كما في القول السابق، وإنما ألحقها بالأموال المغصوبة بل قال: ( هذا عند أكثر العلماء )(21) ولم يفرق بين ما كان بإذن صاحبه أو كان بغير إذنه، وعلى قوله هذا فإن من أخذ من البنك أرباحاً ربوية، فإنه إذا تاب يجب أن يرد تلك الأرباح على البنك الربوي ما دام أنه يعرفه، ويمكن الرد إليه، ولكن هذا يخالف ما قرره الشيخ من منع رد المال لأمثال هؤلاء كالزاني واللائط ومستمع الغناء... فإنه قرر أنه لا يرد إليهم المال لئلا يجمع لهم بين العوض والمعوض، فإن البنك هنا يستفيد بهذا الرد –لو قيل به- القرض ثم الفائدة إذا ردت عليه، فجمع بين الأمرين، وهذا مالا يقول به شيخ الإسلام.
وقال: ( وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين: فيعطى منه من يستحق الزكاة، ويقرى منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه )(22).
وقال: ( المال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده، فيصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين، وهذا أصل عام في كل مال يجهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه كالمغصوب والعواري والودائع يتصدق بها عن صاحبها أو يصرفها في مصالح المسلمين على مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وإذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها؛ لأن المعطي هنا إنما يعطيها نيابة عن صاحبها)(23).
ومن خلال كلام شيخ الإسلام السابق نفهم أنه يقسم المال الحرام والمقبوض بعقد فاسد بالنسبة للتائب إلى قسمين:
القسم الأول: المال المحرم الذي تعذر رده إلى صاحبه كالذي لا يعرف مالكه، فهذا يتصدق به أو يصرفه في مصالح المسلمين، ولا يتملكه حتى المرابي التائب.
القسم الثاني: المال المحرم الذي أمكن رده إلى صاحبه فهذا يجب رده إلى مالكه، ولا يملكه بحال وكذلك يسترد هو عوضه إن كان ثم معاوضة بينهما.
القول الثاني: أنه لا يملكه ولا يرده إلى مالكه ولو أمكن رده إليه، ولكن يجب عليه أن يتخلص منه بأن يتصدق به أو يصرفه في مصالح المسلمين، فالفرق بين القولين في رده إلى مالكه ففي القول الأول أوجب على التائب رده على صاحبه إن أمكن، وفي القول الثاني منع رده إلى صاحبه ولو أمكنه ذلك، وأوجب التخلص منه مباشرة بالتصدق.
وهذا القول-أعني به القول الثالث- إنما قضى به شيخ الإسلام وكذا تلميذه ابن القيم في كل من أخذ عوضاً محرماً عن عين محرمة أو نفع محرم استوفاه كما في مهر البغي إذا تابت، والمغني والمغنية التائبة، وثمن الخمر وأجرة النوح واللواط وحلوان الكاهن إذا تاب هؤلاء فإنهما أفتيا بالتخلص منه بعد التوبة، ولا يملك ولا يرد إلى من أخذت منه؛ لمأخذ جميل يأتي ذكره في معرض كلامهما.
والقاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة أن ( كل كسب خبيث لخبث عوضه عيناً كان أو منفعة يكون التخلص منه بالصدقة به )(24) .
ويظهر هذا القول في مواضع من كلامه وفتاويه.
الموضع الأول: أنه سئل -رحمه الله- عن امرأة كانت مغنية، واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه ؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة(25) مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنباً لمن يتخذه خمراً، أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها، فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله، وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه لم يُحكم برده؛ فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض، ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين ، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئاً ليكتسبوا به ولم يردوا عوض القرض كان أحسن، وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله؛ إن الله لا يقبل إلا الطيب، فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مهر البغي خبيث))(26))(27)
فهنا يلاحظ أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يفتِ بملكية هذا المال الخبيث مع كونها قد تابت وحافظت على حدود الله ، بل قال: (ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين) وسبق بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في القول الأول أن من تاب على أموال محرمة قبضها في حال الفسق أنه يملكها.
ومن هنا يظهر أن بين الموضعين إشكالاً يحتاج التفريق بينهما إلى ضابط ظاهر، على أن شيخ الإسلام نفسه ذكر في (تفسير آيات أشكلت) حكم مهر البغي... بعد أن قرر أن التائب يملك المال المحرم فقال: (قد يقال: لا يكون(28) لواحد منهما، كما لو كان ثمن خمر ، أو مهر بغي أو حلوان كاهن، فإن هذا إذا تاب لايعيده إلى صاحبه، بل يتصدق به في أظهر قولي العلماء) (29).
ثم عاد بعد ذلك مخالفاً لكلامه هذا فقال: (وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر ، فإنه قد يقال: طَرْدُ هذا أن من اكتسب مالاً من ثمن خمر مع علمه بالتحريم، فله ما سلف، وكذلك كل من كسب مالاً محرماً، ثم تاب إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغي، وحلوان الكاهن، وهذا ليس ببعيد عن أصول الشريعة، فإنها تفرق بين التائب وغير التائب...) (30).
الموضع الثاني:
في اقتضاء الصراط المستقيم: قال ( نعم، البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم، ثم تابوا، هل يتصدقون بها أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها؟ فيها قولان : أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر) (31). فهنا أفتى بالتصدق به ولم يفت بملكيته بعد توبتهم.
الموضع الثالث:
في مجموع الفتاوى قال:( ...كما لو تراضيا بمهر البغي، وهناك يتصدق به على أصح القولين لا يعطى للزاني، وكذلك في الخمر ونحو ذلك مما أخذ صاحبه منفعة محرمة فلا يجمع له العوض والمعوض، فإن ذلك أعظم إثماً من بيعه، وإذا كان لا يحل أن يباع الخمر بالثمن فكيف إذا أُعطي الخمر وأعطي الثمن، وإذا كان لا يحل للزاني أن يزني وإن أعطى فكيف إذا أعطي المال والزنا جميعاً، بل يجب إخراج هذا المال كسائر أموال المصالح المشتركة، فكذلك هنا إذا كان قد باع السلعة وقت النداء بربح وأخذ سلعته فإن فاتت تصدق بالربح، ولم يعطه للمشتري فيكون أعانه على الشراء، والمشتري يأخذ ثمنه ويعيد السلعة، فإن باعها بربح تصدق به، ولم يعطه للبائع فيكون قد جمع له بين ربحين)(32) وهنا أمر بإخراج هذا المال المحرم ولم يفت بملكيته بعد التوبة.
الموضع الرابع:
في مجموع الفتاوى (سئل رحمه الله تعالى عن خياط خاط للنصارى سير حرير فيه صليب ذهب فهل عليه إثم في خياطته وهل تكون أجرته حلالا أم لا؟
فأجاب: نعم إذا أعان الرجل على معصية الله كان آثما لأنه أعان على الإثم والعدوان، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها)، وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها، ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما كقتال المسلمين والقتال في الفتنة، فإذا كان هذا في الإعانة على المعاصي فكيف بالإعانة على الكفر وشعائر الكفر، والصليب لا يجوز عمله بأجرة ولا غير أجرة ولا بيعه صليبا،كما لا يجوز بيع الأصنام ولا عملها،كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)،وثبت عنه أنه لعن المصورين، وأنه كان لا يرى في البيت صورة إلا قضبها، فصانع الصليب ملعون لعنه الله ورسوله.
ومن أخذ عوضا عن عين محرمة، أو نفع استوفاه ، مثل أجرة حمال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغي ونحو ذلك، فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم ، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفى العوض ويتصدق به، كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك وغيرهم(33)). فهذه الفتوى صريحة في أن شيخ الإسلام يقضي في المحرم لكسبه بأنه عوض خبيث، وأنه يجب التوبة من ذلك العمل والتصدق به، وأنه لا يعاد إلى صاحبه.
الموضع الخامس:
نقله عنه تلميذه ابن القيم فقال: ( فإن قيل: فما تقولون فيمن سُلِّم إليهم المنفعة المحرمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنى واللواط؟ قيل: إن كان لم يقبض منهم العوض لم يُقضَ له به باتفاق الأمة، وإن كان قد قبض لم يطب له أكله، ولم يملكه بذلك ، والجمهور يقولون يرده عليهم لأنه قبضه قبضاً فاسداً، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما أنه يرده عليهم، والثانية لا يأكله ولا يرده بل يتصدق به، قال شيخنا: وأصح الروايتين أنه لا يرده عليهم ولا يباح للأخذ، ويصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر)(34).
فهنا كلام صريح بأنه إذا قبض العوض المحرم أنه لا يطيب له ولم يملكه بالقبض.
وقال في موضع آخر: ( فصل المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة، وقبض العوض كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده، فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله، ولم يقبضه بإذن الشارع، ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح، وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين)(35)
وقال في موضع ثالث: ( فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت، هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصد ق به؟
قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعاً، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه، رده عليه. فإن تعذر رده عليه، قضى به ديناً يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك، رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم .
وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنا أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي له(36).
وأما قول أصحاب القول الأول إن هذا مال محرم فيقاس على المقبوض بعقد فاسد إذ حكمه وجوب رده إلى صاحبه.
فنوقش : أن المقبوض بعقد فاسد يجب فيه التراد من الجانبين، فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه، كما في تقابض الربا عند من يقول المقبوض بعقد فاسد لا يملك كما هو معروف في المذهب الشافعي وأحمد، فأما إذا تلف المقبوض عند القابض وتعذر رده، فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقاً، ويجمع له بين العوض والمعوض فإن الزاني واللائط ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعاً منه، بخلاف ما لو كان العوض خمراً أو ميتة، فإن ذلك لا ضرر عليه في فواته فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها(37).
فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تقضوا له بها إذا طالب بقبضها، قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم نحكم بالقبض، لكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقداً لتحريمها بخلاف الكافر؛ و ذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل محرم فلا يقضى له بالأجرة.
فإذا قبضها ثم قال الدافع هذا المال اقضوا لي برده، فإنما أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة، قلنا له أنت دفعته بمعاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ منك فاردد إليه ما أخذته منه إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر(38).
فإن قال :قد تعذر رد المنفعة التي استوفيتها منه قيل له: فلا يجمع لك بين ما استمتعت به من منفعته وبين العوض الذي بذلته فيها، فإن قال: أنا بذلت ما لا يجوز بذله وهو أخذ ما لا يجوز أخذه، قيل: وهو بذل لك من منفعته ما لا يجوز له بذله، واستوفيت أنت ما لا يجوز استيفاؤه، فكلاكما سواء، فما الموجب لرجوعك عليه و لا يفوت عليك شيء، وتفوت المنفعة عليه وكلاكما راض بما بذل مستوف لعوضه؟
فإن قال: ما بذلته أنا عين يمكن الرجوع فيها فيجب ردها، وما بذله منفعة لا يمكن الرجوع فيها إذا أمكن الرجوع في مُعوَّضها الذي بُذلت في مقابلته، أو إذا لم يمكن، الأول: مسلَّم والثاني هو محل النزاع فكيف يجعل مقدمته من مقدمات الدليل ؟ وقياسه على المقبوض عوضاً عن الخمر والميتة لا يصح كما عرف الفرق بينهما.
على أنا لا نسلم أن مشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وشربها ثم طلب أن يعاد إليه المال أن يقضى له به بل الأوجه ألا يرد إليه الثمن(39)، ولا يباح للبائع أيضاً، لا سيما ونحن نعاقب الخمار يبيع الخمر بأن يحرق الحانوت التي يباع فيها نص عليه أحمد وغيره من العلماء(40) انتهى كلام شيخ الإسلام وابن القيم في هذه المسألة.
وما ذكرته هو المذكور في كتبهم، ولا أزعم أني أحطت بها، ولكن هذا الذي وقفت عليه، ولم يبق بعد ذلك إلا تمحيص هذه الأقوال وتوجيهها إن أمكن، والموازنة بينها.
النتيجة والموازنة:
بعد هذه الجولة المفصلة في بيان رأي شيخ الإسلام يحسن بيان بعض النتائج التي توصلت إليها، وهي نتائج اجتهادية قابلة للنقاش والنظر، يمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً: ظهر مما سبق أن لشيخ الإسلام قولين في المسألة، وليس قولاً واحداً.
ثانياً: أن كلام شيخ الإسلام مُشكِل في بعض المواضع، وفي مواضع أخرى لم يجزم برأيه، وقد مال في موضعين بتمليكه تلك الأموال بعد التوبة، وأكثر المواطن أنه يوجب صرفها في مصالح المسلمين، ولا يملكها بالتوبة. والظاهر أن القول بتمليك تلك الأموال بعد التوبة هو آخر قوليه لانتباهه إلى ما يترتب على القول بخلافه من تنفير وضرر، ولأن كتابه (تفسير آيات أشكلت) يعتبر من أواخر ما ألفه شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قد ألفه في سجن القلعة بدمشق كما يفهم هذا من كلام ابن عبد الهادي في العقود الدرية(41).
ثالثاً: لم أجد نصاً صريحاً من كلامه يوجب رد مهر البغي وثمن الخمر واللواط وأجرة النوح على أصحابها بل كلامه واضح وصريح في أنه لايرد إليهم حتى لا يجمع لهم بين العوض والمعوض.
أما في المرابي التائب: فقد نقلنا كلامه في القول الثاني أنه يرده إلى من أربى عليه إن أمكن وإلا تصدق به عنه، ولكن قد يقاس مال المرابي على مهر البغي واللواط وحلوان الكاهن ونحوهم في منع رده إلى صاحبه، وذلك لأن العلة التي من أجلها منع شيخ الإسلام رد العوض على الزاني واللائط ومستمع الغناء ونحوهم- وهي ألا يجمع له بين العوض والمعوض- قد توجد-أي العلة- في عقود الربا؛ وذلك مثل أن يقترض رجل من آخر بفائدة ربوية ثم ينتفع بهذا القرض، ثم بعد ذلك يطالب المقترض المقرضَ ما قبضه من الربا، وكان قبل ذلك قد انتفع بالقرض فإذا رُدَّت إليه الفائدة فقد جمع بين العوض والمعوض أي بين رأس المال(القرض) والفائدة كما جمع الزاني بين الزنا وعوض الزنا إذا رد إليه؛ لذا قال شيخ الإسلام: (وأيضاً ففي رده-أي الربا- عليه- أي على المقترض- تسليط لمن يحتال على الناس بأن يأخذها-أي أموالهم- بعقود ربوية فينتفع بها ثم يطالبهم بما قبضوه – أي منه من الربا- وقد انتفع برأس ماله-أي مال غيره- مدة بغير رضاهم فإنهم لم يعطوه قرضاً) (42).
رابعاً: ما الراجح من هذه الأقوال؟ وهذا سؤال متوقع بعد هذه الجولة الطويلة، ولئن كان المقصود من البحث هو تحرير رأي شيخ الإسلام في المسألة فقط(43) فإنه لا مانع من بيان الراجح في نظر الباحث – وهو خلاصة دراسة مسبقة في غير هذا الموضع- فأقول -والله أعلم- إن الجواب فيه تفصيل:
أما من حيث رد مهر البغي إلى الزاني، وأجرة الغناء إلى المستمع... فهو قول ضعيف، والصواب كما قاله شيخ الإسلام وابن القيم أنه لا يُرد العوض إلى أمثال هؤلاء حتى لا يُجمع لهم بين العوض والمعوض، أما هل يملك هذا المال بعد التوبة؟ فهو محل اجتهاد ونظر،
والقول الأول قوي وهو أن تلك الأموال تملك بعد التوبة وتطيب له ويصير كمن لم يتعامل بمحرم لأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وهذا عام في باب العبادات والمعاملات، ومن أقوى ما يدعم هذا القول قوله تعالى: ((فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)) وهذا عام في كل من جاءته موعظة من ربه فيشمل المسلم والكافر، وإن كانت الآية نزلت في الكفار فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو دليل قوي ولم أجد جواباً سليماً عنه لولا ما يعكر صفو الاستدلال به حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(44). وهذا النص عام في العبادات والمعاملات فكل ما وقع منهما على خلاف الشرع يجب رده وإبطاله، والعقود المقبوضة بهذه الحال يجب ردها وإبطالها؛ لدخولها تحت هذا الحديث، كما قال الخطابي وابن حزم(45) وغيرهم من أهل العلم.
وقد يقال في المسألة: أنه إن كان المال المحرم موجوداً عنده ومعلوماً قدره ومتميزاً ولم يختلط بغيره، ويمكن إخراجه كأن يكون العقد قريباً فإنه يخرجه ويتصدق به، وإن لم يكن المال موجوداً بعينه أو اختلط بغيره، ولم يستطع تمييزه، أولم يعلم مقداره لطول الأمد عليه ونحوه فإنه يعفى عنه، وله ما سلف، ويمكن حمل رأيي شيخ الإسلام على هذا التفصيل، وهو قول فيه جمع أو تقريب بين القولين.
وأما في الربا، فهل يرد المال على من أربى عليه أو لا ؟ فهذا فيه تفصيل أيضاً: إن كان من أربى عليه ممن يحتال على الناس بإجراء العقود الربوية معهم لينتفع بقروضهم ثم يطالب بعد ذلك بالفوائد، أو كان من أربى عليه معروفاً عنه التعامل بالربا فهذا لا يرد إليه الربا، ولكن يتصدق به كما لا يرد على الزاني ومعاملة له بنقيض قصده، وإن لم يكن المقترض معروفاً عنه التعامل بالربا فإنه يرد المال على من أربى عليه؛ لأنه في الواقع رضي بالربا للحاجة إليه.
وعليه فإذا كانت المعاملة بين بنك ربوي وعميل فلا يخلو من حالين:
الحال الأول: أن يكون العميل هو المقترض، والبنك هو المقرض بفائدة فإذا تاب البنك رد الفائدة على العميل؛ لأن الغالب أن العميل إنما يقترض للحاجة وبدون رضاه، فإن علم أنه يقصد منه التحايل لم يرد المال عليه وإنما يتصدق البنك به.
الحال الثانية: أن يكون العميل هو المقرض بفائدة، والبنك الربوي هو المقترض، فإذا تاب العميل فإنه يتخلص من المال الربوي ولا يرده إلى البنك لئلا يُجمع للبنك بين العوض والمعوض، أي: القرض زائد الفائدة إذا ردت إليه، كما لا يرد مهر البغي على الزاني.
وأما الأموال المغصوبة، وما قبض بغير رضى صاحبه: كالمغصوب والمسروق والمنهوب فلا شك بأنه يجب رده إلى صاحبه، ولا يملكه بقبضه، فإن تعذر رده إلى صاحبه أو إلى ورثته تصدق به عنه كما قرر ذلك ابن القيم. وأما ما قبض برضى صاحبه بعقد محرم كالمقبوض بربا ثم تاب قابضه، فلشيخ الإسلام قولان: الأول: أنه يملك المال بعد التوبة، والثاني: لايملكه، ثم تردد قوله بعد ذلك، فقال مرة يجب التصدق به، وقال مرة يرده على صاحبه، وهذا مالا يصلح القول به في البنوك، والله تعالى أعلم.
وفي الختام أقدم شكري لكل من أبدى لي ملاحظاته من المشايخ وطلبة العلم، وكل من ناقشني في هذا الموضوع؛ ليثري العلم، ويوسع البحث بما يفيد، وأسأل الله عز وجل أن يدلنا للخير، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
___________________
( ) مجموع الفتاوى(26/202) و (11/265)، وانظر الفتاوى الكبرى(3/264)، وإعلام الموقعين(3/263)، (3/275).
(2) (تفسير آيات أشكلت)من 2/577-596
(3) مجموع الفتاوى(22/16-18)
(4) (تفسير آيات أشكلت) 2/577
(5) سورة البقرة، آية(275)
(6) سورة البقرة، آية(275)
(7) سورة البقرة، آية(275)
(8) تفسير آيات أشكلت (2/586)
(9) سورة البقرة، آية(275)
(0 ) سورة البقرة، آية(278-279).
(1 ) (تفسير آيات أشكلت)من 588-590
(2 ) (تفسير آيات أشكلت)من 592- 593
(3 ) يقصد بالصورة التي قبلها : صورة قبض المال الحرام عن جهل وتأويل.
(4 ) يقصد بالقول الذي جزم به هو ما قرره قبل هذا بصفحات أن المقبوض بعقد فاسد عن جهل وتأويل يملكه صاحبه ويطيب له ولا يؤمر بفسخه ولا رده ومعنى كلامه فإن إيجاب الفسخ على العاصي إذا تاب فيه نظر فإن العفو عن الجاهل والمتأول لا يلزم منه عدم العفو عن العاصي إذا تاب.
(5 ) مجموع الفتاوى(22/16-18)
(6 ) مجموع الفتاوى(22/21-22)
(7 ) اقتضاء الصراط المستقيم ص (247- 248).
(8 ) مجموع الفتاوى (29/437-438) بتصرف يسير.
(9 ) مجموع الفتاوى(28/594).
(20) مجموع الفتاوى (28/568-569) وانظر (30/413) و(29/263) (29/241)و(28/284)
(21) المراجع السابقة
(22) مجموع الفتاوى (30/328)
(23) مجموع الفتاوى (29/263) و (29/321)
(24) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/779)
(25) هكذا في مجموع الفتاوى، ولعل الصواب: (إن كان عيناً أو منفعة مباحة)
(26) رواه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ (كتاب المساقاة -باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي) (3/1199)
(27) مجموع الفتاوى (29/308)
(28) أي العوض المحرم المقبوض
(29) تفسير آيات أشكلت (2/595-591)
(30) (تفسير آيات أشكلت)من 588-590
(31) اقتضاء الصرط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/247)
(32) مجموع الفتاوى (29/292)
(33) مجموع الفتاوى(22/141-142)
(34) أحكام أهل الذمة(1/575)
(35) مدارج السالكين (1/390)
(36) زاد المعاد (5/779)
(37) اقتضاء الصراط المستقيم (1/247-248) و أحكام أهل الذمة (1/574-575) و زاد المعاد (5/781-782) بتصرف في الجميع
(38) المراجع السابقة
(39) في اقتضاء الصراط المستقيم (1/248) ( الأوجه أن يرد إليه الثمن ) ولعله خطأ والصواب المثبت في المتن لسياق الكلام وهو الموجود في أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/576)فيبدو أن ( لا ) سقطت من الناسخ والله أعلم
(40) المراجع السابقة .
(41) العقود الدرية(21-22)
(42) تفسير آيات أشكلت(2/592)
(43) ذكرت في غير هذا الموضع خلاف العلماء في هذه المسألة مستوفىً بالأدلة والمناقشات، وهي مسألة معضلة في نظري لقوة أدلة الفريقين، والله أعلم. انظر بحث المساهمة في الشركات التي أعلنت توقفها عن الأنشطة المحرمة للباحث في موقع الإسلام اليوم.
(44) رواه مسلم بهذا اللفظ من طريق القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (كتاب الأقضية -باب نقض الأحكام الباطلة ، ورد محدثات الأمور ) رقم 3243 (9/119).
(45) عون المعبود (12/234)، و المحلى (8/135).