قال قوم شعيب لنبيهم: "أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ" (هود: من الآية87) والمعنى: "إنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله، وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب"؟! وقد خرج كلامهم هذا مخرج السخرية والتهكم.
واعتراض قوم شعيب على أن تكون للعبادات أثرها في الحياة ورغبته في ألا يكون للشعائر أثر في الحياة والمعاملات هو عين العلمانية التي يدعو إليها بعضهم.
إنه لا يكفي أن يكون أفراد المجتمع ملتزمين بالمظاهر والشعائر الدينية، بل لابد من أن يتحول ذلك إلى سلوك اجتماعي في معاملاتهم، ولو كانت الصلاة صلاة تامة على وجهها لأمرت ونهت وأثرت في حياة المرء كلها.
إن المتأمل في نصوص الشرعية يلحظ أن من ثمرات الشعائر وأهدافها استقامة معاملات الناس، ففي الصلاة قال الله تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" (العنكبوت: من الآية45) فكل منكر من شأن الصلاة أن تنهى عنه وتزجر، ومن المنكرات بلا شك التطفيف والغش والكذب وسائر ما يتعلق بمعاملة الآخرين.
وقال الله تعالى في الصيام: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:183) ، والتقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ومن الأوامر الله تعالى الأمر بصلة الأرحام والأمر بحقوق الجار والأمر ببر الوالدين والأمر بالصدق وغيرها من أضرب المعاملات مع الخلق.
وقال الله تعالى في الحج: "فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" (البقرة: من الآية197) والتربية على ترك الرفث والفسوق والجدال من جملة التربية على المعاملة الحسنة في سائر شأن المرء.
فالإسلام دين يجمع بين العبادة والمعاملة، ويوثق الصلة بين العبد والخالق و العبد الخلق، وتقسيم الفقه إلى عبادات ومعاملات تقسيم فني وليس حقيقي إذ أن كل عبادة هي معاملة مع الله تعالى، وكل معاملة مع الخلق عبادة لله عز وجل يجب أن يراعى فيها أمره ونهيه.
وإذا سلمنا أن الدين عبادة ومعاملة فإن هذين القسمين يكمل كل واحد منهما الآخر ويؤكد عليه، وتكامل الشريعة الإسلامية الغراء وتجانسها خاصية تتميز بها عن سائر الشرائع الوضعية.
إن شخصية المسلم منسجمة غير متناقضة، فلا يصح أن يقبل على بعض الدين ويعرض عن بعضه ولا أن يدين في بعض ما شرع ويذر بعضه، فقد عاب الله تعالى على بعض أهل الكتاب لما طبقوا بعض أحكامه وأهملوا بعضها فقال: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة: من الآية85).
فإذا عُلم ما سبق تيقن المسلم أن شعائره التعبدية التي يؤديها إن لم تسلم معها المعاملات مع الخلق من النواهي والمحاذير الشرعية فإنها ناقصة أو لم يحسن أداءها وإلا لكان لتلك الشعائر أبلغ الأثر في حياته كلها.