الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
فقد كان من أعظم نعم الله على عباده أن جعل لهم مواسم للعبادة، تكفر فيها السيئات، وترفع فيها الدرجات؛ ليبقى المسلم بعدها على صلة بربه، كلما أدركه الكسل جاءه موسم عظيم؛ ليجدد إيمانه، ويتعاهد قلبه؛ فيبقى نقياً من الشوائب خلياً من الران.
وكان من هذه المواسم العظيمة هذه العشر المباركة؛ فلها فضائل عظيمة، وخصائص كبيرة، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" .
قال المفسرون ـ ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما ـ: الأيام المعلومات أيام العشر.
وهي العشر المذكورة في سورة الفجر حيث أقسم الله بها تنويها بشأنها في قول الله تعالى: "وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ".
وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" أخرجه البخاري من حديث ابن عباس.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر" رواه البزار من حديث جابر بن عبدالله.
وكان سعيد بن جُبيرٍ إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
فلنغتنم فيها الأعمال الصالحة قبل فوات الوقت؛ فلا يدري المرء هل يدركها عاماً آخر، أو يكون تحت الثرى، يتمنى حسنة واحدة:
فمن أعظم الأعمال: المحافظة على الفرائض في كل وقت لاسيما في مثل هذه الأزمنة الفاضلة.
ومنها: الذكر بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؛ حيث دلت السنة على المحافظة عليه فيها بخصوصه.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" رواه أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال البخاري رحمه الله: كان أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وذكْرُ الله سمة من سمات العشر؛ بل هو سمة من سمات الحج الذي فضلت العشر بسببه.
وبعض الناس يُهمل هذا الهدي، ويُعنى بأعمال صالحة أخرى لم تدل السنة على فضلها فيها بخصوصها، والأولى أن نعمل بما نقدر عليه من أي عمل صالح، وأن نُعنى أكثر بما حضت عليه السنة بخصوصه.
فالذكر من أجل القربات، ومن أعظم العبادات:
فبه تشكر النعم، وأعظمها نعمة الهداية:
قال الله تعالى: "كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَٱذْكُرُونِىۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ".
وقال تعالى: "ولتكبروا الله على ما هداكم" الآية.
وذكر الله هو النجاة من عذابه؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله". رواه أحمد من حديث معاذ.
وهو في جملته خير من الجهاد والصدقة.. قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ذكر الله". رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء.
ولهذا جعله عديلاً وبديلاً لما شرعه الله من الشرائع؛ فقد سأله رجل من أصحابه فقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل" رواه ابن ماجه من حديث عبدالله بن بسر.
فالذكر حياة القلب وسلوة النفس وسبب الثبات على الدين والاستقامة على الشرعة.
فإن وظف المسلم هذا الموسم في ذكر الله أصبحت هذه العبادة له ديدنا، وصارت له سنة وطريقة، ومن ضيعه فهو لما سواه أضيع.
ومن المعلوم أن الذكر اللساني إنما هو طريق إلى ذكر القلب، ومن ثم استقامة الجوارح على ذكر الله.
ومن العمل الفاضل فيها صوم يوم عرفة:
فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة؟ قال: "يكفر السنة الماضية والباقية" رواه مسلم.
ورواه أبو داود وغيره بلفظ: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله".
ومنها: الحج:
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" قيل: وما بره؟ قال: "إطعام الطعام وطيب الكلام" رواه أحمد وابن خزيمة، وهو حديث جيد.
ومنها: الأضحية:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
ثم يلي ذلك بقية الأعمال الصالحة، وأولاها في الجملة: الأعمال المتعدية من إعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وتعليم العلم، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكقراءة القرآن والصدقة والصيام.
ولم يثبت في فضل الصيام فيها حديث بخصوصه، ولكنه داخل في جملة الأعمال الصالحة.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.