وقفات للكرام في نهاية العام
24 ذو الحجه 1428

سبحان من صرّف الدهور والأعوام فما إن يمضي عام إلا ويحل عام وسبحان من يدير الأيام في مابين خلقه على الدوام وقال وهو الخالق سبحانه: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: من الآية140)، وما أسرع مرور الأيام وما أعجل انقضائها ففي هذا الوقت بدأنا نودع فيه عام كامل هو العام الهجري ألف وأربعمائة وثمانية وعشرين. عشنا خلاله أياماً بلياليها بلغت ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً فيها ثمانية ألاف وأربعمائة وستة وتسعون ساعة. مضت بما فيها من الأفراح والأحزان وبما فيها من السعادة والأكدار! مضى ذلك العام وهنالك العديد من الوقفات الهامة التي ينبغي أن نقف عندها ونتأملها ومن أبرزها ما يلي:

الوقفة الأولى: وقفة تأمل واعتبار:
فكم فقدنا في العام المنصرم من الأحباب والأخوان ومن الصالحين والأخيار وكم دارت فيه من حروب وكم أزهقت من أنفس معظمها بريئة لا ذنب لها، وكم من ديار خربت وأموال سلبت وأعراض انتهكت كم وكم من الأحوال تبدلت وتغيرت، وكم أعزَّ الله من أقوام وأذل آخرين وهذا كله يدلنا على تغير الأحوال وقدرة الخالق سبحانه على ذلك فهو العزيز الحكيم يعز من يشاء ويذل من يشاء ويخلق ما يشاء ويتوفى من يشاء ويغني من يشاء ويفقر من يشاء. قال عز وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:26-27). ومع تغير هذه الأحوال وتبدلها فإن الله تعالى لم يوجد العباد إلا لعبادته وحده فلم يخلقهم عبثاً ولن يتركهم هملاً قال جل وعلا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115-116) فما حل بمن مات في هذا العام سيحل حتماً بكل واحد منا وإن لم نعتبر بغيرنا فسنكون عبرة لغيرنا وما أحسن ما قيل:





يقولون أسباب الحياة كثيرةٌ فقلت وأسباب المنون كثير
وما هذه الأيام إلا مصائد وأشراك مكروهٍ لنا وغرور
يسار بنا في كل يوم وليلة فكم ذا إلى ما لا نريد نسير
وما الدهر إلا فرحة ثم ترحة وما الناس إلا مطلق وأسير

أسأل الله تعالى أن يكشف عن إخواننا المسلمين في كل مكان ما هم فيه من بلاء وأن يجعل ما أصابهم رفعة لدرجاتهم وتكفيراً لسيئاتهم وأن لا يبتلينا فإننا ضعفاء وأن يحفظ لنا ديننا وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين أجمعين وأن يوقظنا ويحيي قلوبنا ويرزقنا الاعتبار بما حولنا ويوفقنا للعمل الذي يرضيه عنّا.

الوقفة الثانية: هذا العام مضى ولن يعود أبدا:
فما أودع فيه من عمل فقد أودع ولا يمكن التغيير فيما سجل إلا بأن يعمل الإنسان عمل جديد يعوض به ما مضى ويزيد به ما هو موجود، وأما إن كان العمل سيئاً فلا بد من توبة تمحو آثاره وتزيل بقاياه فباب التوبة مفتوح ولا أحد يحول بين التائب وربه سبحانه وتعالى.


يا عبد... كم لك من ذنب ومعصية إن كنت ناسِيها فالله أحصاها
يا عبد... لابد من يوم تقوم له ووقفة لك يدمي الكف ذكراها

وقد قسَّم أهل العلم رحمهم الله الذنوب إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الشرك الأكبر: ولابد من الخروج منه والدخول إلى الإسلام.

القسم الثاني: الشرك الأصغر: فلا بد من التوبة منه قبل الممات وفعل من وقع في ذلك الشرك ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حلف الشخص بغير الله فإنه يقول بعدها مباشرة لا إله إلا الله والدليل على عدم مغفرة الشرك سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر قول الحق سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48).

القسم الثالث: الكبائر: وهي ما ورد في النصوص على أنها كبيرة أو توعد فاعلها بعذاب أو نار جهنم أو ترتب عليها حد في الدنيا أو لعن لفاعلها في كتاب الله أو سنة نبيه عليه الصلاة والسلام. والكبائر لابد لها من توبة وإذا لم يتب فاعلها فإنه تحت مشيئة الله يوم القيامة فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

القسم الرابع: صغائر الذنوب: وهذه تكفرها الأعمال الصالحة بشرط اجتناب الكبائر وربما إذا أصر المسلم على الصغيرة تصبح بهذا الإصرار من الكبائر.

الوقفة الثالثة: النتيجة على قدر الاجتهاد:
فإن من جدَّ واجتهد تحصل على نتيجة اجتهاده سواء كان اجتهاده في أمر من أمور الدين أو أمر من أمور الدنيا وقد أحسن من قال:


بقدر الجد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدٍ أضاع العمر في طلب المحالِ

والناجحون هم الذين يجتهدون وعن ساعد الجدِّ يشمرون قد يتعبون أنفسهم فيصبرون وفي النهاية يسعدون ويفرحون وعند الصباح يحمد القوم السُرى ولكن يا ترى ما هو الاجتهاد المطلوب وما هي ثمرته حتى نسارع إليه ونتنافس في الوصول إليه وفي بلوغ غايته وامتطاء مجده إنه بلا شك ولا ريب ولا تردد ولا خوف هو الاجتهاد في عبادة الخالق المحمود والملك المعبود ذو الجلال والإكرام والنتيجة لهذا الاجتهاد هي سعادة الدارين وسلوك طريق المتقين والنجاة يوم الدين قال سبحانه جل شأنه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) ، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "خيركم من طال عمره وحسنه"(1). ثم كان الجزاء والنتيجة أن قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف:13-14)، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة وجزاؤهم في الآخرة جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الوقفة الرابعة: وقفة محاسبة:
فبعد مضي عام كامل من عمرك أيها المسلم، وهو عمر محسوب على كل مسلم ومسلمة فماذا قدمنا يا ترى في ذلك العام الماضي من عمل صالح يكون لنا ذخراً عند الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم:





عليك بمنع نفسك عن هواها فما شيءٌ ألذّ من الصلاحِ
تأهب للمنية حين تغدو كأنك لا تعيش إلى الرواح
فكم من رائح فينا صحيح نعته نعاته قبل الصباح
وبادر بالإنابة قبل موت على ما فيك من عِظَم الجُناح
وليس أخو الرزانة من تجافى ولكن من تشمر للفلاح

قال الإمام أحمد رحمه الله: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية". وقال الحسن رحمه الله: "المؤمن قوّامٌ على نفسه لله وإنما يخف الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة". وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيّاً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك".

الوقفة الخامسة: الوقت أغلى من أن يقدر بثمن:
فقد مضى من عمرك أيها المسلم عام كامل يضاف إلى ما مضى من الأعوام وهذا العام هو عام ثمين ولو أحسنت استغلاله لحصلت على حسنات كثيرة لا تقدر بثمن ولا يقارنها شيء من أمور الدنيا وإن عَظُم ذلك الأمر، ولربما ارتفعت في الجنة منزلتك إن كنت من أهل الجنة بسبب حسن استغلالك لوقتك، فما فاز من فاز بالدرجات العلى في الجنة إلا بسبب حسن استغلالهم لأوقاتهم وشغلها بالعمل الصالح مع صلاح القلب بالإخلاص لله عز وجل فاجتمع لهم بذلك صلاح الباطن مع صلاح الظاهر ولا أدل على ذلك من قول الخالق سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:107-108) فكانت نتيجة استغلالهم لأوقاتهم بإيمانهم وعملهم للصالحات أن حصلوا على تلك الجنة التي هي أغلى نتيجة يحصل عليها عامل ويدل على ذلك أنهم لا يبغون عنها حولاً ولا يرضون بها بدلاً لاسيما وهم يتنعمون بأنعم نعيم فيها وهو النظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى. ويدل على أهمية الوقت وثمرة استغلاله أيضاً قول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام الذي يبين فيه علو مكانة بعض أهل الجنة وأن لهم المنازل العالية في تلك الجنة الغالية(2) فيقول عليه الصلاة والسلام: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكبَ الدريَّ الغابرَ في السماء". وقد قيل:

الوقت أنفس ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

والوقت بمضيه دون أن يستفيد منه المسلم يمثل خسارة كبيرة لا تقدر بثمن، فإن المسلم يستطيع أن يذكر الله تعالى في الدقيقة الواحدة ويمجده ويثني عليه ويكون له بهذا الذكر حسنات كثيرة فإن الحسنة بعشر أمثالها وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن. سبحان الله وبحمده. سبحان الله العظيم".


دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان

الوقفة السادسة: دعونا نبدأ العمل:
وبداية العمل بالتوبة والاستغفار، فالتوبة لما يستقبل من الذنوب والاستغفار لما مضى والرب جل وعلا كريم يغفر ذنوب التائبين حتى ولو كانت شركاً وهو أعظم ذنب عصي به الله جل جلاله وتقدست أسمائه ويدل على ذلك قوله جل وعلا في أرجئي آية في كتابه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الزمر:53-55). ثم بعد التوبة إلى الله والاستغفار فلنعاهد الله جل وعلا على سلوك طريق الأخيار والإقتداء بسيد الأبرار وإمام المتقين فقد أوصى بذلك فقال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضو عليها بالنواجذ"(3) ولا يخفى على كل مسلم يحب الله تعالى أن الخير كل الخير هو في إتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الباري جل وعلا في كتابه الكريم حيث يقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31).

وفي الختام فإن لابد لنا أن نعتبر بمضي هذا العام الذي قد عشنا بفضل الله هذا العام وأحيانا ربنا تبارك وتعالى فيه. وعلينا أن لا ننسى تقصيرنا في ذلك العام فإن حال كثير من المسلمين بمجرد نهاية العام فإنه سرعان ما ينساه ويفرح بالغد ويستعجل الأيام وهي تسير بنا جميعا إلى آجالنا والله المستعان.

إنا لنفرح بالأيام نقطعها   وكل يوم مضى يدني من الأجل

أسأل الله تعالى أن يحيينا على طاعته وأن يجعل ما قدمنا في العام المنصرم من أعمال صالحة مقبولة عنده سبحانه وأسأله وهو الكريم سبحانه أن يتجاوز عن ما حصل في عامنا المنصرم من تقصير وخلل ولا يكاد يسلم من ذلك أحد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

_______________
(1) رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح.
(2) رواه مسلم.
(3) النواجذ: قال النووي: الأنياب وقيل الأضراس.