قوة الحق
4 ربيع الأول 1429

البطش والتشغيب ونبذ الحوار المثمر والنقاش بالحجج والبراهين هو منهج الطغاة قديماً وحديثاً، لأنهم يعلمون أن الحق يعلو ولا يعلى عليه،
ولذا لا يجيدون غير البطش وسيلة لنشر باطلهم، ويحسبون بذلك أنهم سوف يزهقون الحق الذي يقض مضاجعهم، ولكن مهما امتد بهم الزمان سيظهر الحق ويبطل كل حججهم، قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171-173]، بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان، وقال تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، وقال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 103].
فهذه الآيات الكريمات تدل على حقيقةٍ كثيراً ما يتجاهلها الطغاة مع أنها حقيقة قرآنية تاريخية، تقضي بأن المنهج الحق سينتصر وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، وأن ما يظهر من بطش الباطل وقوته وسطوته لا يعدو أن يكون مرحلة عابرة، ثم تقوم على دماء أولئك الذين سقطوا تحت وطأة الباطل دولة الحق وتنتشر دعوته، فكم من رجل قد مات وانتشرت دعوته بعد موته أضعاف انتشارها في حياته، ولو قدر له أن يعيش عمراً طويلا ما استطاع نشرها على ذلك النحو الذي انتشرت به بعد وفاته.

إن الأفكار خير وسيلة لدحضها الأفكار، فالحجة لا تعارض إلا بالحجة، والبرهان لا يرده إلا التسليم أو الإبطال بالبيان، ولذا يعلن عجزه من يكمم الأفواه التي تصدح بالحق، ويصم الآذان حتى لا تستمع إلى الهدى، كما فعلت قريش يوم حاولت صرف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرة بالعنوة والقهر كفعلهم مع مستضعفي مكة من المؤمنين مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وعمار بن ياسر العنسي وأبيه وأمه رضي الله عنهم جميعا، أو بالحيلة كما فعلوا مع الطفيل بن عمر الدوسي رضي الله عنه الذي ما زالوا به يحذرونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرون له ما نسجوا من الأكاذيب والشائعات في وصفه كي يصدوه عن سماع الهدى ويصرفوه عن البرهان الساطع الذي لم يجدوا لمجابهته إلا أساليبهم الخرقاء.

ولكن هل انصرف مستضعفو الصحابة عن الهدي أم ازدادوا ثباتا؟ لا شك أن تلك الأفعال الإجرامية لم تزد إلا من رسوخ الإيمان في قلوبهم الطاهرة، كما لم تفضِ حيلة مشركي مكة بالطفيل بن عمرو الدوسي إلا استنهاضا للعقل وبعثا للوعي الذي أوصله لنزع ما وضع من الكرسف في أذنه والجلوس إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومبايعته والانضمام إلى ركبه المبارك الميمون.

ولكن المعضلة الكبرى أن المتجبرون في الأرض يتغافلون عن هذه الحقيقة، حقيقة أن المنهج لا يدحض بوسائلهم التي بها يحاربون، ولا يضمحل بأساليبهم التي يمارسون، نعم قد يخفت ضوؤه كما يخبو ضوء سراج هبت عليه رياح خفيفة ثم ما يلبث ذلك السراج أن يسطع ضوؤه فيحيل الظلام نورا، وبرغم وضوح هذه الحقيقة يريد الطغاة أن يطفئوا نور الله، فيتناسون التاريخ رغم أنه في أيد الجميع مسطر مدون، ويغضون النظر عن الواقع رغم أنه ظاهر بين اغتراراً بما أوتوا، وطمعاً في الإتيان بجديد لم تستطعه القرون الأولى، ثم تمضي السنة فيعودون تاريخاً مكتوباً، فيعتبر بهم المؤمنون اللاحقون، ويغتر بالفرق بينهم وبين أنفسهم الطغاة اللاحقون، لتمضي سنة الله في خلقه ويظل التدافع بين الحق والباطل، (والعاقبة للتقوى).