ولا يلتفت منكم أحد
16 جمادى الأول 1429

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد:
{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81 – الحجر: 65]، توجيه من الله تعالى لنبيه لوط لمّا أمره أن يسري بأهله، فمنعهم من الالتفات، وقد اختلف أهل التفسير هل خرجت امرأة لوط في جملة أهله عليه السلام أم لا، بناء على اختلافهم في الاستثناء {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [سورة هود: 81]، هل هو من السّري أم الالتفات، في قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [سورة هود: 81]، ولهم في هذا أبحاث طوال ألف بعضهم فيها رسائل، والظاهر أنها خرجت معهم لكنها لم تلتزم الأمر فالتفتت، فأصابها ما أصاب قومها.

 

وفي النهي عن الالتفات حِكَمٌ أشار إليها العلماء منها ما ذكره ابن عاشور بقوله: "والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة. وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم".

 

هكذا ذكر وله وجه ظاهر، بيد أن ههنا معنى آخر، هذا المعنى تجده في خبر إبراهيم عليه السلام مع هاجر، عندما جاء بهما إلى واد غير ذي زرع، والشاهد الذي نريده في البخاري(1) من حديث ابن عباس قال فيه: «ثم قفى إبراهيم منطلقاً [بعد أن وضع هاجر وإسماعيل حيث أمره الله]، فتبعته أم إسماعيل فقالت: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فقالت له ذلك مراراً. وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، قال: "نعم"، قالت: "إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37]».

والشاهد قوله في الحديث: وجعل لا يلتفت إليها... يمم وجه حيث أُمر فلم يلتفت عن قصده حساً ولا معنى.

 

وهذا المعنى كذلك هو الذي تجده في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:
«لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، قال عمر بن الخطاب: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، قال: "فتساورت لها رجاء أن أدعى لها"، قال: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: «امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك»، قال: "فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يارسول الله على ماذا أقاتل الناس؟"، قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (2).

والشاهد قوله: امش ولا تلتفت... فسار شيئاً ثم وقف ولم يلتفت... يمم وجهه حيث أمر فلم يلتفت عن قصده حساً ولا معنى.

 

وقريب من هذا خبر سرية عبدالله بن جحش وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتاباً وقال: «لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا»، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (3).

والشاهد التزامه بالأمر فلم يلتفت عما أمر به حتى أنفذه.

ولعل من هذا الباب فعل موسى عليه السلام، لما رأى العصا تهتز كأنها جان فولى مدبراً ولم يعقب، قال الله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة النمل: 10-11].

ولعل منه كذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن الالتفات في الصلاة، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» (4).

والمعنى الجامع الذي تجده في كل هذه الأخبار، هو المنع عن الالتفات خشية أن يشغل عن إدراك ما كلف المرء به.

وهكذا إن حددت هدفك، وحررت طريقك، وتيقنت من أمرك فامض ولا تلتفت، ولاسيما إن كانت عاقبة الالتفات وبيلة قد تقطعك عن بغيتك وتحرمك مرادك وتقعدك عن أداء التكليف أو تعيقك.

 

ولهذا كانت مناسبة الأمر للوط عليه السلام وأهله بترك الالتفات ظاهرة في ذلك الموقف فهي دعوة للإمعان في القصد إلى مغادرة القرية، والنجاة بالنفوس أن يصيبها ما أصاب قوم السوء الفاسقين، وهكذا لو قلت لرجل انج بنفسك سوف ينفجر بركان هنا، لم يكن من الحكمة أن يتلفت، بل يعمل طاقته في الهرب من المحذور النازل.

وبهذا تظهر مناسبة التعقيب بقوله تعالى في سورة الحجر: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [سورة الحجر: 65]، مع ما قبلها في أول الآية: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [سورة الحجر: 65].

فأكد النهي عن الالتفات بالأمر إلى قصد الغاية التي منع الالتفات عنها لئلا يقطع دونها.

 

وتأمل لو خرجت من بيتك قاصداً مسجداً والطريق بها عقبات وهوّات، وقد أزف وقت إقامة الصلاة، وجعل يناديك مناد يريد أن يناقشك في وجوب صلاة الجماعة، أو يقنعك بالبقاء وترك المسجد، فإن وقفت معه أضعت الصلاة، وإن التفت إليه توشك أن تقع في حفرة أو تصطدم بعقبة تعيقك، وهكذا السائر في طريق الدعوة المحفوف بالعقبات والصعاب.

وبالجملة إذا حررت هدفك وتثبت من طريقك فاحذر الالتفات عنه فقد يؤدي بك إلى ما لا تحمد عقباه.

 

_______________

(1) صحيح البخاري (3184).

(2) صحيح مسلم (2405).

(3)علقه البخاري جازما في الصحيح 1/35.

(4) صحيح البخاري (718).