مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الفتن والملاحم عنوان شهير وعريض في نصوص الوحي من كتاب وسنة، يتناول جانبا مهما من الحياة الإسلامية بجميع مراحله المختلفة، وأهم مباحثه: مصائب وبلايا تحدث في دين المسلمين ودنياهم، وفي أماكن وأزمنة متباينة، كما يتناول بشائر بحفظ الدين وتمكينه، ومنازلات ومعارك بين الأمة الإسلامية وسائر أمم الأرض، وغير ذلك مما يشكل الملامح العامة لمستقبل هذا الدين ومصير أتباعه.
وهذه محاولة متواضعة لبيان أهمية فقه الفتن والملاحم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعند سلف الأمة وعند العلماء والدعاة المعاصرين، كتبتها رجاء أن يوقظ الله به من الهمم ويهدي به من العقول، ويبعث الله من أهل العلم من يحيي هذا الفقه العزيز ويرث علم الشر من حذيفة رضي الله عنه خبير الفتن والملاحم.
ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد والإخلاص والصواب.
معنى الفتن والملاحم في اللغة والاصطلاح:
أولا: معنى الفتنة في اللغة والاصطلاح:
أ ـ معنى الفتنة في اللغة:
الفتن جمع فتنة، ويراد بها معان كثيرة ومختلفة، وذكر الفيروزأبادي من معانيها اللغوية (الإحراق، الخبرة، الإعجاب بالشيء، الضلال، الإثم، الكفر، الفضيحة، العذاب، إذابة الذهب والفضة، الإضلال، الجنون، المحنة، المال، الأولاد، اختلاف الناس في الآراء)(1).
وبجميعها وردت الشواهد اللغوية والشرعية، والفيصل بينها عند الاستعمال هو القرائن الحالية أو المقالية.
ب ـ معنى الفتنة في الاصطلاح:
من أقرب تعريفات الفتنة الاصطلاحية قول الجرجاني (هو ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر)(2)، وهو تعريف جامع مانع كما يقول المناطقة، فالفتنة للإنسان كالمختبر الذي يفحص فيه الأشياء لمعرفة حقائقها وما اعتراها من علل أو أدواء، فالإنسان إذا تعرض للفتن علم فقهه من جهله، وتبين رشده من غيه، فالعالم الرشيد يستضيء بنور الكتاب والسنة ويعرف موضع قدمه عند حلول الفتن وقبله، أما الجاهل الغوي فلا يبصر طريقا ولا يهتدي سبيلا فتتقاذفه أمواج الفتن ذات اليمين وذات الشمال.
ثانيا: معنى الملاحم في اللغة والاصطلاح:
أ ـ معنى الملاحم في اللغة:
الملاحم هي جمع ملحمة، قال ابن منظور (والمَلْحَمة الوَقْعةُ العظيمة القتل، وقيل موضع القتال، وأَلحَمْتُ القومَ إِذا قتلتَهم حتى صاروا لحماً، وأُلحِمَ الرجلُ إِلحاماً، واستُلحِمَ اسْتِلحاماً إِذا نَشِب في الحرب فلم يَجِدْ مَخْلَصاً...)(3).
فكل وقعة عظيمة بين طرفين أعمل فيها السلاح في الأجساد وأثخن فيها بالجراح فهي ملحمة بالمعنى اللغوي، بغض النظر عن كونها محمودة أو مذمومة، أو كونها في جاهلية أو إسلام.
ب ـ معنى الملاحم في الاصطلاح:
الملحمة في نصوص الشرع هي القتال العظيم بين المسلمين والكفار، وقتال الملاحم يختلف عن قتال الفتن، فالفتنة قتال المسلمين بعضهم، والملاحم قتالهم الكفار(4).
وفي الحديث (أنا محمد، وأنا أحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، والحاشر، والمقفى، ونبي الملاحم)(5)، قال النووي رحمه الله (لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالقتال)(6)، وفي ذلك مدح للملاحم في الجملة، لكون منازلاته ومعاركه صلى الله عليه وسلم ضد الكفر والظلم والاضطهاد جهادا في سبيل الله وسعيا لرفع كلمته، وكذلك جهاد كل من اتبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
ثالثا: موضوع الفتن والملاحم في القرآن والسنة.
إن القرآن الكريم وكذلك السنة النبوية المطهرة قد أوليا مستقبل الأمة الإسلامية اهتماما بالغا، وعالجا قضايا ذالك المستقبل بواقعية تامة، إذ يجد الباحث المستشرف فيهما ما سيطرأ على مبادئ الأمة وقيمها من تغيرات، وما سيجد في كيانها السياسي من تقلبات، وما تشهد عصورها وبلادها من حوادث.
ونظرا لكون الفتن والملاحم داخلا في الغيبيات، ولا سبيل إلى إثبات شيء منها إلا بخبر من الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المصدر الوحيد لأخبار الفتن والملاحم هو الوحي بشقيه القرآن والسنة.
1- موضوع الفتن والملاحم في القرآن الكريم:
تناول القرآن الكريم موضوع الفتنة وأهلها وحكم السعي فيها ونتائج ذلك في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى مبينا بواعث الفتنة ومبادئها: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: من الآية7] قال السعدي رحمه الله: (طلبا للفتنة وتحريفا لكتابه وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا)(7)، فليس مقصد أهل الفتنة موافقة الحق والصواب، فلذلك يحرفون النصوص ويؤولونها على غير أوجهها الصحيحة لتحقيق مآربهم الشخصية وأغراضهم الذاتية.
وقال تعالى في فضح أمر أهل الفتنة ورجالها المروجين لها في المجتمع الإسلامي: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) [النساء:91]، والآية وصف دقيق لدخيلة أهل الفتن من ذوي المواقف المتقلبة والولاءات المتباينة، ممن يريد أرضاء أصحاب كل ملة ودعاة كل نحلة بموافقتهم على شيء مما عندهم، كي ينال من خيرهم ويأمن من شرهم، حتى ولو كان ما يدعى إليه فتنة في الدين أو الدنيا، فهو مستعد للارتكاس فيه.
وقال تعالى في معرض التحذير من شر الفتنة المستطير وفسادها العريض: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25]، (وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره)(8).
وقال تعالى يأمر بالقتال لمنع الفتنة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193]، وبعض الناس يزعم أن أفضل موقف في الفتن أي كان نوعها هو الحياد، وهذا مخالف لهدي هذه الآية الكريمة.
وذكر تعالى مصيرهم في الآخرة وهو الجزاء المناسب لجنس عملهم في الدنيا وهو الفتنة بالنار، فقال جل شأنه: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [الذاريات:10-14]، وقال تعالى أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10].
أما موضوع الملاحم فقد تحدث القرآن الكريم عن أمور مستقبلية قريبة من زمن الرسالة، وأحداث بعيدة منها تعد من جنس الملاحم، مثل حديثه عن المعركتين الكبيرتين بين الأمتين العظيمتين فارس والروم، وعن موقف المسلمين وغيرهم من نتائج تلك المعارك، قال تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:1-5]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى(نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطسنية وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل)(9)، أما سر فرحة المؤمنين بانتصار الروم على الفرس فهو فوات ما تمنته قريش من غلبة إخوانهم الوثنيين من أهل الفرس عباد النار على أهل الكتاب الروم، لما في ذلك من تقليل لشأن الدين السماوي الخاتم الذي أبوا الدخول فيه(10).
وتحدث القرآن أيضا عن فتح مكة ودخول الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم مكة أعزاء مرفوعي الرؤوس بعد أن أخرجوا منها مقهورين مظلومين، قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح:27]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال صلى الله عليه وسلم (بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟) قال: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومطوف به)(11).
ومما ذكره القرآن من غيب مستقبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الدار الآخرة بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر:1-3]، والسورة نعي ضمني وإشارة خفية لقرب أجله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدنيه فقال له عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناء مثله فقال عمر: إنه من حيث تعلم، قال: فسأل عمر ابن عباس عن هذه الآية (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...) السورة، فقال ابن عباس: أجله أعلمه الله إياه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم(12).
ومن التعبيرات القرآنية ذات الصلة بموضوع الفتن والملاحم لفظة الإرث، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، وهذا وعد إلهي بتمكين الصالحين في الأرض وأنهم ورثة الأرض بإذن الله تعالى(13)، ومثله لفظة العاقبة كما في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: من الآية49]، وغيرها من الآيات.
والآيات المتحدثة عن المستقبل والمتناولة لموضوع الفتن والملامح صراحة أو إشارة غير ما أوردنا كثيرة جدا، ولعل في السالفة كفاية وبلاغ.
2- موضوع الفتن والملاحم في السنة النبوية.
أما السنة النبوية المطهرة فقد تحدثت بتفصيل أكثر عن موضوع الفتن والملاحم، حيث عقد المصنفون في الصحاح والسنن أبوابا وكتبا كثيرة في الفتن والملاحم ففي:
- البخاري (كتاب الفتن)(14).
- وفي صحيح مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة)(15).
- وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (كتاب الفتن والملاحم)(16).
- وفي سنن أبي داود (كتاب الفتن والملاحم)(17).
- وفي سنن الترمذي (كتاب الفتن)(18).
- وفي سنن ابن ماجة (كتاب الفتن)(19).
ومن أمثلة ما جاءت به السنة من أمر الفتن والملاحم ما يلي:
روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه سلم من النوم محمرا وجهه يقول (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج مثل هذه) قيل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال (نعم إذا كثر الخبث)(20)، وفيه حزن النبي صلى الله عليه وسلم على أمته(21)، وخوفه من الفتن المحدقة بهم، والتي كانت بداية سلسلتها قريبة من عهده صلى الله عليه وسلم.
مثال آخر:
أخرج أبو داود رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(22)، والحديث بشارة نبوية بدورات صيانة يمن الله بها على الأمة في كل قرن هجري حين تنطمس معالم الخير وسبل الهداية، بما يبعث من المجددين الذين يرجعون بالناس إلى السمت الأول والرسم العتيق.
مثال آخر:
عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل...)(23)، وهذا الحديث نبأ صدق ونبوءة حق عن تحالف دولي يتداعى فيها قوى الشر لحرب الإسلام والمسلمين في وقت تعاني فيه الأمة من غثائية مقعدة سببها حب الحياة وكراهية الموت.
وهناك أحاديث أخرى كثيرة تتحدث عن فتن وملاحم مختلفة.
هذا، ولا شك أن هذا الكم الهائل من نصوص الوحي في القرآن والسنة يمثل مرجعا هاما لمستشرفي المستقبل وخبراء الدراسات المتعلقة بحياة الأمم ومظاهر تقدمها وانحطاطها.
رابعا: أهمية فقه الفتن والملاحم عند السلف الصالح.
إن التفقه في موضوع الفتن والملاحم ومدارسة نصوصها، للوصول إلى فقه الواجب في التعامل مع الواقع المتغير في حياة المسلمين المعاصرة والمستقبلة، ليس بدعا من القول ولا ترفا في الفكر، كما أنه ليس إيغالا في الوهم ولا جنوحا إلى الخيال، بل إن نسب هذا العلم الشريف يرتفع إلى الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه خبير الفتن والملاحم إن صح التعبير، فقد كان الناس يسألون رسول الله عن الخير فيسأله هو عن الشر ليأخذ بكامل الاحتياطات اللازمة لاتقائه، فعن أبي إدريس الخولاني قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني(24)، فكأنه رضي الله عنه يشير إلى حقيقة شرعية مهمة وهي أن من أسباب الوقوع في الفتن عدم فقه التعامل معها.
ولم يكن الاهتمام بشأن الفتن والملاحم من أمر حذيفة فقط رغم باعه الطويل وقدحه المعلى فيه، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتدارسون هذا الفن الخطير في مجالسهم العلمية ونواديهم الثقافية، قال حذيفة رضي الله عنه: كنا جلوسا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت أنا كما قاله، قال إنك عليه - أو عليها - لجريء قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال ليس هذا أريد ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال أيكسر أم يفتح؟ قال يكسر قال إذا لا يغلق أبدا... الحديث(25).
وكان عمار بن ياسر أيضا رضي الله عنه من المتبصرين في فقه الفتن والملاحم، كيف لا وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفه من الفتنة، وحكم على المعسكر الذي يقتله بأنهم بغاة، مما يشهد على كونه على الحق هو وحزبه، فعن عكرمة قال: قال ابن عباس لي ولابنه علي انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ ردائه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد، فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه فيقول (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) قال: يقول عمار أعوذ بالله من الفتن(26).
وقد أفرد بعض الأئمة كتبا خاصة بالفتن والملاحم كالإمام نعيم بن حماد المتوفى سنة 229 هـ والإمام أبي عمرو الداني المتوفى 444هـ(27)، وللإمام ابن كثير كتاب مهم بعنوان (النهاية في الفتن والملاحم).
خامسا: عناية العلماء والدعاة المعاصرين بموضوع الفتن ملاحم.
إن من أكثر ما شغل بال العلماء والدعاة المعاصرين حاضر هذ ه الأمة ومستقبلها، والمستقبل يعد جزءا مهما من حياة الأمم كما هو في حياة الأفراد، ولا تقل أهمية عن الماضي والحاضر، بل إنه نتيجة من تراكم الماضي على الحاضر.
وهذه قائمة لكتابات بعض العلماء والدعاة المعاصرين في موضوع (المستقبل) أو قل إن رمت أصالة اللفظ (الفتن والملاحم)، بكوا فيها على الماضي المجيد للأمة الإسلامية، وتحدثوا فيها عن حاضرها الأليم، واستشرفوا فيها لمستقبل واعد:
- حاضر العالم الإسلامي، لشكيب أرسلان رحمه الله.
- المستقبل لهذا الدين، لسيد قطب رحمه الله.
- الإسلام ومستقبل البشرية، للشيخ عبد الله عزام رحمه الله.
- حاضر العالم الإسلامي، لجميل بن عبد الله المصري رحمه الله.
وأخيرا:
هذا غيض من فيض ونقطة من بحر في أهمية فقه الفتن والملاحم جمعته على عجل وأسأل الله أن يزيد في العلم وينسأ في العمر حتى نتهيأ لكتاب قواعد تعين على فهم هذا العلم وتهدي إلى حسن التعامل مع الفتن والملاحم والله ولي التوفيق.
___________________
(1) الفيروزأبادي، القاموس المحيط باب النون فصل الفاء،.
(2) الجرجاني، التعريفات ص 212
(3) ابن منظور، لسان العرب 12/535
(4) انظر: العظيم أبادي، عون المعبود 11/ 575
(5) رواه أحمد في المسند ح 23492
(6) النووي، شرح صحيح مسلم 15 / 106
(7) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 122
(8) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 318
(9) تفسير القرآن العظيم 3/ 423.
(10) راجع: الطبري، جامع البيان 21 / 16
(11) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 4 / 202
(12) صحيح البخاري: 6 / 2587
(13) راجع: الشنقيطي، أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن 4 / 250
(14) انظر: صحيح البخاري 6 / 2587.
(15) انظر: صحيح مسلم 4 / 2207
(16) انظر: المستدرك على الصحيحين 4 / 465
(17) انظر: سنن أبي داود 4 / 94
(18) انظر: سنن الترمذي 4 / 460
(19) انظر: سنن ابن ماجة 2 / 1295
(20) متفق عليه.
(21) إنما عبر في الحديث بالعرب لأنهم أكثر المسلمين حينئذ أنظر الفتح 13/ 11.
(22) سنن أبي داود كتاب الملاحم.
(23) رواه أبو داود.
(24) رواه البخاري ومسلم.
(25) رواه البخاري ومسلم.
(26) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
(27) انظر: كشف الظنون 2 / 1445.