يا بني اركب معنا
21 جمادى الأول 1429

يقع كثير من الآباء في خطأ فادح عندما يقررون -إما في لحظة غضب أو بعد تفكير طويل- أن يطردوا أبناءهم من البيت متخيلين أن في هذا الطرد حلاً أو مقدمة حل لما يعانونه من مشاكل مع هؤلاء الأبناء، وتزداد فداحة هذا الخطأ عندما يصدر من أهل الخير والصلاح.
إننا في كثير من الأحيان نقدم على أفعال لظننا أن إقدامنا عليها مظهر من مظاهر القوة والمبادرة إلى الفعل، لكنها في حقيقة الأمر ليست سوى مظهر من مظاهر الضعف والعجز عن حل المشكلات، ومسألة طرد الأبناء من البيوت خير مثال على ذلك.
عندما كان المجتمع أكثر قوة وتماسكاً ومحافظة على الأعراف والتقاليد الصحيحة المستمدة في كثير منها من تعاليم الشرع الحنيف، كان طرد الابن من البيت إن حصل يمثل هزة عنيفة للابن تدفعه لتوسيط أهل الخير والصلاح من الجيران والأقارب كي يعفو الأب ويصفح، وفي المقابل كان المجتمع يؤدي دوره المنوط به فيسعى لرأب الصدع ويعيد الابن للبيت مقابل وعد منه بالحرص على بر الوالدين وترك ما يغضبهما، أما اليوم فمع اتساع رقعة العمران وتعقد العلاقات الاجتماعية وتشعبها، ومع كثرة العوامل المؤثرة التي تسهم في توجيه سلوك الأبناء، فإن الابن المطرود سيجد كثيراً من هذه العوامل يدفعه لا في اتجاه البيت سعياً لإرضاء والده بل في الاتجاه المعاكس تماماً حيث التشجيع على مواصلة التمرد على الأب وتزيين ذلك له وتصوير الأب على أنه المخطئ وأنه من ينبغي أن يصحح خطأه بالركض خلف ابنه والتوسل إليه للعودة إلى البيت، وفي ظل كثرة أسباب الفساد المتاحة بيسر وسهولة هذه الأيام فإن طرد الابن من البيت قد يعني بصورة غير مباشرة دفع الابن للوقوع فريسة سهلة في شباك الفساد والمفسدين.
بعض الصالحين قد يقدم على طرد ابنه من المنزل لتقصيره في أداء بعض الصلوات في المسجد، أو لتكاسله عن بعضها، أو لاكتشافه أنه يدخن أو غير ذلك، لكن السؤال المهم هو: هل بطرد الابن سيصير الابن محافظاً على الصلاة وسيقلع عن التدخين، أم أن هذا الطرد سيؤدي به إلى ترك الصلاة بالكلية أو التمادي في التدخين وما هو أسوأ ؟
بعبارة أخرى، هل الطرد حل للمشكلة أم أنه سيؤدي إلى تفاقمها أو إلى حدوث مشاكل أخرى؟
إن البيت الصالح والبيئة الصالحة في زماننا أشبه ما تكون بسفينة نوح التي تجري في موج كالجبال من الفتن والخطوب، ويجب على الآباء والأمهات الحرص على الأبناء كل الحرص كي يركبوا في السفينة؛ لقد لبث نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل بلا كلل أو ملل بكل وسيلة أتيحت له {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)... ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} [سورة نوح] ومع كل ذلك قال الله تعالى {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [سورة هود:40]، وهذا بلا شك من الابتلاء لهذا الرسول الكريم وأشد منه أن يكون ابنه-أقرب الناس إليه نسباً- وزوجه -أقرب الناس إليه سبباً- من الذين لم يؤمنوا.
حري بالآباء الذين قد يظنون أن في طرد الأبناء حلاً أن يتأملوا مشهداً مهيباً قصه القرآن الكريم، إنه المشهد الأخير بين نوح عليه السلام وابنه قبل أن يبتلعه الطوفان، لقد أدرك عليه السلام الخطر العظيم المحدق بابنه في هذه اللحظة الحرجة التي تفصل بينه وبين الجنة أو النار فناداه بأرق عبارة نداء المشفق المحب فقال: (يا بني)! وكان يمكن أن يناديه باسمه يا فلان لكنه أراد أن يلين قلبه وأن يذكره بأبوته التي لن يأتيه منها إلا كل خير، ثم إنه لم يدعه في هذا الموقف للإيمان رغم طول ما دعاه إليه من قبل خوفاً منه عليه السلام أن يأتي جواب ابنه بالإعراض عن الهدى كما كان يعرض طوال السنين الماضية فيختم له بالكفر لكنه عدل عن ذلك إلى قوله: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا}، يعني لا أريد منك الآن سوى الركوب لتنجو من الغرق فها أنت ترى الموج حولنا من كل مكان ولا نجاة لك إلا بالركوب معنا، ثم يقول: {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: الآية42] فلم يقل: (ولا تكن من الكافرين) كي لا يكون عوناً للشيطان عليه فيزداد عتواً ونفوراً، وكذلك خشية أن يكون هذا هو حكمه في نهاية المطاف، فلما رأى انخداع ابنه بما يراه في الجبل من عصمة من الغرق، قال: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: من الآية43] ولم يقل لن يعصمك الجبل، فلم يخاطبه بعينه بهذا الخطاب بل جعلها قضية عامة شفقة عليه، ثم ذكره برحمة الله رجاء أن يكون من أهلها.
فأعد النظر ملياً في هذا الموقف النبوي، وقارنه موقف ذلك النبي الكريم بأولئك الذين يبادرون إلى طرد أبنائهم ولعنتهم عند حدوث خطوب لا تقاس بما أحدثه ابن نوح!
إن طرد الأب ابنه يعني أن كل حبال الحوار والاقناع قد انقطعت، لكن نوحاً عليه السلام لم يقطع الحوار مع ابنه أبداً، فبرغم إعراض الابن عن الاستجابة له عليه السلام إلا أنه بقي يسعى في هدايته ونجاته إلى آخر لحظة متاحة، ولم يقطع حبل الحوار الذي بينه وبين ابنه من تلقاء نفسه، بل ما انقطعت دعوته له إلا بأمر خارج عن إرادته {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]، وعلى الرغم من ذلك بقي عليه السلام متعلقاً بالأمل لوعد الله له أن ينجيه وأهله فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، فلم يفعل ما يفعله كثير من الآباء أو الأمهات من الدعوة على أبنائهم وهو الأمر الذي نهى عنه الشارع وحذر منه خشية أن تكون ساعة إجابة ولات حين مندم، بل دعا ربه سبحانه وتعالى بخير ابنه على ما كان منه.
نعم قد يكون في بقاء الابن المشاكس في البيت عدد من المفاسد، لكن طرده من البيت قد يؤدي إلى مفاسد أكبر من ذلك بكثير وهو الأمر الذي ينبغي أن يتفطن له الآباء، فيدفعوا أكبر المفسدتين بتحمل أدناهما، بل إن الأب لو شعر أن زيادة إنكاره أو نصحه لابنه سيؤدي إلى أن يهجر الابن البيت فعليه أن يخفف من ذلك ويتحين الفرص المناسبة ويسدد ويقارب، وهذا ما فعله نوح عليه السلام فقد علم أن غرق ابنه على الكفر أكبر مفسدة يقع فيها الابن، فسعى لإنقاذه من الغرق بركوبه معه ولو كان على الكفر، فبنجاته من الغرق يبقى الأمل موجوداً في إيمانه وصلاح شأنه.
هذا هو مقتضى الحكمة والربانية في مثل هذه المواقف، وما سوى ذلك فليس من الحكمة والتعقل بل وليس من تحمل مسؤولية الأولاد التي سيسألنا عنها الله في شيء.