بعد ذكر جملة لا بأس بها من القواعد العلمية النظرية يجدر بنا أن نتبعها بعدد من القواعد العملية التطبيقية التي تهدي المسلم إلى ما يجب فعله تجاه الفتن والملاحم، ذلك لأن الاختبار الحقيقي والابتلاء الأكبر كامن في التعامل مع الفتن بفقه وبصيرة، وليس مجرد العلم بها والإيمان بوقوعها وتمييز أنواعها.
وفيما يلي بعض القواعد ذات الصلة بالعمل والتطبيق:
القاعدة الأولى: وجوب الاستعاذة من الفتن.
كل إنسان معرض للابتلاء بالفتن سواء الصغائر منها أو الكبائر، وسواء من استشرف ومن لم يستشرف، فلا يكاد يسلم من شررها ولفحها أحد، ولذلك شرعت الاستعاذة من الفتن والفرار منها قدر المستطاع. وقد حفظ من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفتن بأنواعها وأحجامها، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ دبر كل صلاة من أربع يقول (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، اللهم إني أعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إني أعوذ بك من الأعور الكذاب).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستعيذون بالله من الفتن، فعن عكرمة قال: قال ابن عباس لي ولابنه علي انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ ردائه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه فيقول (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وروى البخاري بسنده عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ (لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ) فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ) وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. فلو كان هناك أحد معصوم من إصابة الفتن وآثارها لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وما احتاجوا إلى الاستعاذة منها.
القاعدة الثانية: القعود في الفتن خير من القيام فيها.
إن مباشرة الفتنة على أي مستوى كان أمر ممقوت شرعا وعقلا، قال تعالى {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) ومن المعروف أن درجات المباشرة والمشاركة في الفتن غير متساوية، فهناك: 1- (الساعي فيها بحيث يكون سببا لإثارتها) ثم: 2- (من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي) ثم: 3- (من يكون مباشرا لها وهو القائم) ثم: 4- (من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد) ثم: 5- (من يكون مجتنبا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان) ثم: 6- (من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم) وهلم جرا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، من وجد منها ملجئا أو معاذا فليعذ به) وفي رواية (النائم فيها خير من اليقظان).
للعلماء تفصيل فيما يحمل عليه النصوص لواردة في بيان درجات المشاركة والمباشرة ي الفتن، فهناك من حمل النصوص على القتال على الملك، ومنهم من حمله على كل قتال بين لمسلمين، ومنهم من حمله على من ليس له شبهة في القتال، ومنهم من حمله على قتال لبغاة والخوارج للإمام... وغير ذلك من لأقوال، وأمثل الأقوال في نظري قول الطبري فيما نقله عنه ابن حجر (أن الفتنة صلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على ن قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن عان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي لحالة التي ورد النهي عن القتال فيها...) بيد أني أرى شمول النصوص الواردة في بيان رجات المشاركة والمباشرة لكل فتنة سواء كانت من نوع الشبهات أو من نوع الشهوات، وسواء كانت فتنا سياسية أو فتنا كلامية، في جميعها قادة ورؤوس وأذيال ورعاع، ينجي الله من يشاء بفضله.
وكما أن لمباشرة الفتن درجات متفاوتة، إن لها أدوات وآليات متنوعة يجب تعطيلها ن مفعولها في إثارة الفتن. ومن تلك الأدوات والآليات اللسان وما يقوم مقامه من وسائل التعبير كالكتابة والتأليف، والمحاضرة، والندوة، وغيرها مما يدعو ا إلى الفتنة ويروج لها في المجتمع المسلم.
ومنها أيضا الأسلحة بأنواعها، حيث يجب حصرها في اليد الرسمية فقط ومنعها من أي يد غير رسمية، سواء كانت تلك اليد جماعات أو أفراد، حتى لا تستعمل الأسلحة في إراقة دماء معصومة أو انتهاك أعراض شريفة بظلم ة تارة أو تأويل تارة أخرى. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان لها كوقوع السيف). أي تتعطل كل أدوات التواصل الإيجابي بين الناس، بحيث لا يسمع الحق ولا يبصر السبيل القصد، قال القاري (لا يميزون فيها بين الحق والباطل، ولا يسمعون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من تكلم فيها بالحق أوذي ووقع في الفتن والمحن) وعن بن أبي بكرة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس خيرا من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، قال رسول الله ما تأمرني؟ قال (من كان له إبل فليلحق بإبله ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ قال فليعمد إلى سيفه فليضرب بحده على حرة ثم لينجو ما استطاع النجاء) وفي الحديث إرشاد نبوي باعتزال مجتمع الفتنة الصماء والبكماء والعمياء، والاشتغال بخاصة النفس والتخلص من كل أدوات الفتن (فليعمد إلى سيفه فليضرب بحده على حرة) (وهو كناية عن ترك القتال، والمعنى فليكسر سلاحه، كيلا يذهب به إلى الحرب، لأن تلك الحروب بين المسلمين فلا يجوز حضورها) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويسمي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل يعني على أحدكم، فليكن كخيري ابني آدم).
القاعدة الثالثة: القلوب مشربة بالفتن، ومنكرة لها.
تختلف الفتن فيما بينها في تأثيرها على القلوب وإضلال من ابتلي بها من الناس، كما تتفاوت القلوب في تعرضها للحياة والموت والصحة والمرض، ولذالك فالقلوب بالنسبة لتعلق الفتن بها قلبان: الأول: القلب المريض: وهو قلب من أصابه قادح عقدي أو هوى في النفس، فلا يعرف الحق، أو لا يتبعه والعياذ بالله، قال تعالى ِ{في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم} قال الطبري (وأصل المرض: السقم ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد...) وروي عن بعض السلف الصالح تفسيره بالنفاق وبالشك.
وأشار سبحانه إلى مرض آخر يعتري القلوب غير مرض الشك والنفاق فقال {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} قال البغوي (فجور وشهوة، وقيل نفاق). وهذا القلب المريض بالشك والنفاق أو الفجور والشهوة هو الذي تشرب الفتن فتنكت فيها النكت حتى ينطفئ ما تبقى فيه من بصيص النور لتمكن الفتن فيها وتعلقها بها.
الثاني: القلب السليم: وهو قلب من سلم من أمراض الشهوات والشبهات، وعرف الحق واتبعه، قال الله تعالى {يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم} واختلف أهل التفسير في تحديد هذا القلب، (فقيل: من الشك والشرك فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين، وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض}، وقال أبو عثمان السياري: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة، وقال الحسن: سليم من آفة المال والبنين، وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله، وقال الضحاك: السليم الخالص).
ورجح الإمام القرطبي رحمه الله هذا القول الأخير وهو قول الضحاك: (السليم الخالص)، وقال (وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن أي: الخالص من الأوصاف الذميمة والمتصف بالأوصاف الجميلة والله أعلم) وهذا القلب الخالص هو المعصوم بإذن الله من الفتن، فمتى لاحت فتنة وتزينت تعرف عليها بنور العلم والبصيرة وأنكرها. وإلى هذين القلبين وما يطرأ عليهما عند حلول الفتن من آثار يشير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه).
القاعدة الرابعة: الأمر بالجماعة والألفة، والنهي عن الفرقة والاختلاف.
قوام الدين الإسلامي أصلان وهما: أولا: كلمة التوحيد. وتمثل الجانب العقدي من تعاليم الإسلام وفي مقدمته أركان الإيمان، قال تعالى {آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره).
ويندرج تحت هذه الأركان والأصول كل فروع العقيدة الإسلامية إن في الله أو الحياة أو الكون. ثانيا: توحيد الكلمة.
و أكمل صور توحيد الكلمة يتمثل في الدولة الإسلامية القائمة على منهاج النبوة، حيث يكون للمسلمين جماعة وإمام، أي خلافة راشدة تنوب عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به. والجماعة المندوبة لزومها في الشريعة الإسلامية والمحرمة مفارقتها تشمل هذين الأصلين العظيمين، فالجماعة باختصار هي: الحق وأهله، وكل مخالفة للحق، أو مفارقة لأهل الحق فهو خروج عن الجماعة. وهذه بعض النصوص الشرعية في الحث على لزوم الجماعة وذم الفرقة والاختلاف:
أ) من القرآن الكريم: وردت النصوص من القرآن الكريم تحث على الجماعة وتحذر من الفرقة ومنها: قوله عز وجل {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...}، قال الإمام الطبري (يعني بذلك جل ثنائه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله)، وفي الآية أمر بالاعتصام (وأصل العصم المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه)، وفيه أيضا بيان بالمعتصم وهو كما نصت الآية (حبل الله) وقد قيل في تفسيره أنه (الجماعة)، وقيل (القرآن)، وقيل (عهد الله وأمره)، وقيل (الإسلام)، والمعنى واحد والخلاف في التعريف من جنس التنوع، ومن تعريف الشيء بذكر بعض أفراده، قال القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر أقوال المفسرين في بيان معنى (حبل الله) (والمعنى كله متقارب متداخل، فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة) والخلاصة: أنه لا صلاح لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة إلا بالاعتصام بالله قال تعالى {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وهذا يعني أن ليس من دين الله التفرق والاختلاف، وليس منه أيضا الاجتماع على الباطل. وقوله جل جلاله {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وإلى الأمر منكم}.
فقد دلت الآية الكريمة على أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، إذ بطاعة الله ورسوله يصلح دين المرء ويستقيم، وبطاعة ولاة الأمر في المعروف ولزوم جماعة المسلمين تصلح دنياهم وينتظم عقدهم. وقوله سبحانه {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء...}
ب) من السنة المطهرة: وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الجماعة والألفة والنهي عن الفرقة والاختلاف ومنها على سبيل المثال: ـ قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوبة الجنة فليلزم الجماعة...)، ويؤكد هذا الحديث أهمية الجماعة والألفة في حق أيكيان بشري سواء كان كبيرا مثل الدول والشعوب والقبائل...، أو كان صغيرا مثل جماعة السفر أو صحبة العمل والوظيفة أو جوار السكنى، فالطبع والشرع متفقان على الدعوة إلى التجمع والتنفير من التوحد والتفرق. ـ وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم...) ـ ويروي حذيفة رضي الله عنه حديثا في فتنة التفرق والاختلاف وشغور الزمان من الإمام والجماعة، يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ما سيحدث للأمة من تحولات سياسية، وما يجب على المسلم يومئذ فعله، يقول رضي الله عنه: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ).
القاعدة الخامسة: الأصل تفضيل الخلطة، والعزلة استثناء.
لم يجعل الإسلام مجرد وجود الكفر والمعاصي في الفرد أو في المجتمع سببا لهجره واعتزاله، ما لم يؤد الخلطة إلى فساد في الدين أو الدنيا، فلذلك أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن ليخرج من مكة لو لا أن أهلها أخرجوه، كما يؤكد بأن (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
ذلك بأن من قدر الله الكوني اختلاف الناس في أمور كثيرة، منها الاختلاف في الدين والعقيدة، قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والاختلاف في العقيدة لا يمنع من التعارف والتعاون، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)، فالمسلم في كل مجتمع بشري عنصر إيجابي يسعى لنشر الخير والفضيلة، ويساهم في كل ما يحقق الأمن والتقدم ما وجد إلى ذلك سبيلا.
وإذا قلنا هذا في المجتمعات غير الإسلامية، فماذا عسى أن نقول في المجتمعات الإسلامية التي ترتفع في أجوائها كلمة التوحيد في كل يوم خمس مرات، ويشهد فيها الناس الجمع والجماعات، ويؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، ويتعاون أهلها على البر والتقوى؟ إن صفة الإسلامية في المجتمعات البشرية لا تضفي عليها العصمة والطهر المطلق، بل تعني فقط إسلام كلها أو أغلبها وظهور شرائع الإسلام وشعائره فيها، ومن رام في الناس غير ذلك فقد خالف الأمر الشرعي والكوني {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وحين يغلب شر المجتمع أو الفرد خيره، ويخشى المرء منهما على دينه أو دنياه شرع له أن يعتزل، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ)، بل يرخص له في ترك الأمر والنهي، والاهتمام بإصلاح نفسه وأهله فقط.
القاعدة السادسة: من الملاحم ما مدحت، ومنها ما نهيت.
قد يتبادر إلى الأذهان أن كل معركة ونزال بين المسلمين وغيرهم من سائر الأمم أمر محمود ومندوب إليه شرعا، وليس الأمر كذلك فقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن بدأ بعض الأمم بالقتال، وعن تهييج أمم بعينها بأي فعل يدعو إلى القتال، الأمر الذي يوحي بأن من الملاحم ما مدحت وهي الأغلب، وذلك لكونها مظهرا من مظاهر مضي شريعة الجهاد إلى يوم القيامة، كما أن منها ما نهيت ولم يرد في النصوص معرض المدح ولم يسق فيها مساق الندب، قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي ثنا ضمرة عن الشيباني عن أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (دعوا الحبشة ما ودعوكم، والترك ما تركوكم)، وقد تلمس بعض أهل العلم سبب النهي عن تهييج تين الأمتين فقالوا (أما تخصيص الحبشة والترك بالترك والودع، فلأن بلاد الحبشة وغيره بين المسلمين وبينهم مهامه وقفار، فلم يكلف المسلمين دخول ديارهم لكثرة التعب وعظمة المشقة، وأما الترك فبأسهم شديد وبلادهم باردة، والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة فلم يكلفهم دخول البلاد، فلهذين السرين خصصهم، أما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهرا والعياذ بالله فلا يجوز لأحد ترك القتال لأن الجهاد في هذه الحالة فرض عين، وفي الأولى فرض كفاية)، فعلم بهذا أن المنهي عنه هو ابتداء القتال مع الحبشة والترك وتهييجهم له، وليس مجرد القتال. وإن قيل كيف نجمع بين هذا الحديث ومثله وبين قوله تعالى {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}، قيل (الآية مطلقة والحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد...).