اختلفت النظريات التربوية في رؤيتها للعقاب كأسلوب تربوي مؤثر , وتباينت معالجتها له , وتقاطعت في بعض تفسيراتها حوله .
وتعد النظرية المثالية من أشهر الفلسفات التي فسرت مضمون العقاب , وتقوم هذه النظرية المثالية على أن وجود الأشياء الخارجية يتوقف على وجود ما يدركها , فإن انعدم الإدراك استحال فهم الأشياء ..
وفسرت هذه النظرية العقاب للأطفال اعتقادا منها أن الطفل لم يزل بعد غير قادر وغير ناضج , وبالتالي فعليه أن يطيع طاعة عمياء ويتصرف وفق قواعد خارجية موضوعة سلفا , دون أن يعرف لها معنى أو مغزى , وذلك باعتبار أن الراشدين وحدهم هم الذين يعرفون ما ينبغي أن يكون , ولأن الهوة سحيقة بين الأطفال والكبار.
ومن هنا كان للنظرية المثالية قسوة شديدة في الأخذ بالعقاب كأسلوب تربوي , إذ أن العقل عندهم لا يستقيم إلا مع قمع نشاط الجسم , وهذا لا يتم إلا بالعقاب البدني لإشعار الطفل بالعجز تجاه الخطأ , أو بالعقاب النفسي لإشعار الطفل بالإثم والذنب تجاه المخالفة .
ونستطيع أن نتبين فشل هذه النظرية في استخدام العقاب كأسلوب تربوي من جهات مختلفة , إذ إن المقدمة الأساسية لتلك النظرية هي مقدمة خاطئة لذاتها , لأن وجود الأشياء لا يتوقف على معرفتها , فالأعمى والأصم والغافل والساهي والنائم يعيش بين الأشياء , ثم ماذا عن الغيب والأشياء ا لعلوية والوحي وغيره , والذي لا يتعلق بالإدراك ؟ !
إن الصواب أن نقول : إن معرفة بعض الأشياء يتوقف على إدراكها وإدراك كينونتها , وبعضها الأخر تتوقف معرفته على التصديق بوجوده والإيمان بذلك .
كذلك نستطيع أن نلمس خطأ تفسير هذه النظرية في تفسير العقاب واستخدامه , فإن للطفل نفس وروح , وعقل وإدراك , يكافئ عمره وتجربته, ولا بد للعقاب أن يُستخدم استخداما علاجيا لا قمعيا .
نوع أخر من النظريات التربوية هي النظريات الواقعية تلك التي تقوم على أساس عقلي محض , أو طبيعي محض , فالتعليم عندهم هو الاهتمام بواقع الحياة , والواقع عندهم هو مصدر الحقائق , فبالتالي التربية عندهم تتمثل في إعطاء معلومات كاملة حول الواقع ..
وهؤلاء يفسرون العقاب على إنه سلطة وظيفية وسيطة بين المربي والطفل فيضعفون من قيمة العقاب بصورة مبالغ فيها , ويتحدثون عن كون العقاب حيوانية ولا إنسانية , وينادون إلى أن يحل محله الإقناع والمناقشة .
وهذه النظريات - التي يتبناها الغرب في كثير من الأحيان - , تبدو سلبياتها واضحة : فالإنسان ليس مجرد وعاء للعلم , ومعلوماته ليست مجرد فهم للوجود , وإنما الإنسان روح تحتاج إلى غذاء , ونفس تحتاج إلى تزكية , ومشاعر تحتاج إلى تقنين, كما أن العقاب ليس بالضرورة شئ حيواني أو لا إنساني , وإنما قد يكون له أثر إيجابي في كثير من الأحيان إذا اُحسن استخدامه .
وأما التصور الإسلامي : فهو تصور وسطي للكون والحياة والإنسان , فهو يرى أن التربية هى : " عملية تقويم لأخلاق الإنسان وعاداته و طباعه وأفكارة ليكون تعامله مع ما يحيط به تعاملا نموذجيا راقيا ويوثق في ذاك الوقت علاقته بربه وخالقه" .
والعقاب في الإسلام إنما هو يقوم على هدف التقويم والسعي لإعادة السلوك المائل إلى استقامته , ولا يعتمد الإسلام العقاب بطريقة همجية , وإنما يؤكد على تناسب أنواع العقوبة مع أنواع الخطأ , والتي تبدأ من عقوبة النظرة , والكلمة , والتوبيخ , إلى بعض العقوبات الأشد قسوة , كالضرب الخفيف , والمنع من الإنفاق وغيره ..
ووضعت الشريعة الإسلامية أصولاً لتطبيق ا لعقاب على الطفل , بتهيئة الجو المناسب لتعليمة وتربيته إبتداءً , ثم أمرت بالرحمة والتسامح والعفو , ثم أمرت بالتفهيم والتعليم للخطأ , وأمرت بتعريف العقوبة مع الخطأ , وأمرت بإقناع الطفل لاعتبار سلوكه سلوكا خاطئا .
إن هذا كله يجعل العقاب التربوي في ا لنظرة الإسلامية يتميز بالتكامل والوسطية وشمولية النظرة .
ومن ثم كان نجاح العملية العقابية التربوية في الإسلام نجاحا مرموقا حيث لا يتخرج الطفل مثاليا لا يرى الحقائق , ولا واقعيا لا يبالي بالمشاعر , بل يراعي كونه روح وجسد , ويدين بالعبودية والولاء لله وحده , وبالتبعية للوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم , الذي يضئ له طريقه راشدا حكيما ..