محمد العصيمي والتفسير المادي لظاهرة الغبار
28 رجب 1429
عبدالعزيز الجليّل

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإن من أصول الإيمان بالله عز وجل التي لا يصح إيمان عبد إلا بها الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته و أثارها والإيمان بقضائه وقدره وأنه ما من شيء يحدث في ملكوت الله عز وجل من مكروه ومحبوب إلا والله سبحانه قد كتبه وعلمه قبل حدوثه وهو الذي خلقه وأحدثه بقدرته سبحانه وحكمته البالغة التي قد يظهر للعقول شيء منها ويغيب عنها جوانب كثيرة تعجز عن إدراكها . ومما يقضيه الله عز وجل ويقدره في هذه الأرض التي تقلنا والسماء التي تظلنا هذه الظواهر الكونية التي ينتج عن بعضها الخير كالأمطار ونحوها أو ما يحصل من بعضها من الكوارث والشرور كالفيضانات والزلازل والبراكين والصواعق والرياح والأعاصير العاتية.

ولتفسير هذه الظواهر الكونية ميزان قسط وعدل هو الميزان الإلهي القويم وهو المذكور في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وفي المقابل توجد التفسيرات المادية الجاهلية للأحداث والتي لا تجعل لإرادة الله عز وجل وقدره وشرعه وحكمته أي اعتبار في موازينها. بل وتسخر ممن ينطلق في تفسيره للحوادث من تفسيرات القرآن الربانية . ومن ذلك ما فاجأنا به الكاتب في جريدة اليوم محمد العصيمي في مقاله المظلم(( غبار )) بتاريخ 18/6/1429هـ حيث سخر فيه ممن أخذوا بالميزان الرباني في تفسير الظواهر الكونية فكان مما قال (( أما ما أثارني مؤخرا ووضعني في حيص بيص مع فتاوى الغبار، كما يحدث عندما تطرح شركة جديدة للمساهمة، فهو عدد ما استقبلت من رسائل الجوال من متبرعين بتفسير هذه الظاهرة. وهم طبعا ليس لهم من العلم إلا بقدر ما لعالم الذَّرََّة في كوز الذُّرة. يرسل بعضهم بفم مليان وثقة عمياء أن الغبار نتيجة المعاصي، وأن المعاصي تزول، ومعها الغبار، بالإكثار من الاستغفار، فاستغفروا يرحمكم الله وينجلي الغبار الذي تستثيره معاصيكم. ويرسل آخر: هل نتعظ أم أننا نبقى سادرين في غينا ليزيد الغبار ونبقى نتنفس ترابا وقرفا من طقسنا)) ويختم مقاله الكريه بقوله : (أعلم أن للغبار موجة أخيرة، لكنني لا أعلم متى ستكون الموجة الأخيرة لمن يقذفوننا بالمعاصي والذنوب بمجرد أن تهب عاصفة من منخفض المحيط الهندي ومرتفعات البحر المتوسط.) اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الكلام الخطير والزلة الشنيعة ونحمدك يا ربنا على العافية .

لقد وقع هذا الكاتب في خطأين شنيعين :

الأول : السخرية ممن يفسر بعض الظواهر الكونية المؤذية للناس كالرياح والغبار وغيرهما بذنوب العباد وما كسبت أيديهم .

الثاني : السخرية ممن يدعون الى التوبة والاستغفار لدفع مثل هذه الحوادث والكوارث .

ولكن ومن باب حمله على أحسن المحامل نغلب عدم معرفته لما في كتاب الله عز وجل وما في أحاديث الرسول  صلى الله عليه وسلم مما تفسر به الظواهر الكونية . ولذا أسوق فيما يلي بعض الأدلة من الكتاب والسنة التي تبطل مقولات هذا الكاتب ويجعله يعرف شناعة ما كتبه لعله أن يتقي ربه ويرجع عن سوء ما قاله حيث بان له ما يجهله .

 .

فمما جاء في كتاب الله عز وجل من الحكم الإلهية والتفسيرات الربانية للظواهر الكونية ما يلي :

تخويف العباد لعلهم يرجعون .قال الله عز وجل :{وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} ]سورة الإسراء:59 [ وقال سبحانه : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  ]سورة الروم:41[وقال الله عز وجل{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}  ]سورة الأنعام :43[.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس في عهده : (إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما من آيات الله يخوف الله به عباده فإذا رأيتم كسوفاً فاذكروا الله حتى ينجليا )]  البخاري (1044) مسلم (901) [

 

عقوبة للكفار وانتصاراً للمؤمنين. ومن ذلك ما أنزله الله عز وجل من العذاب والعقوبات الأليمة بأعداء الأنبياء والمرسلين عندما كفروا بآيات الله ورسوله وصدوا عن سبيل الله عز وجل انتصاراً لرسله وأوليائه كما عاقب الله عز وجل قوم نوح بالغرق والطوفان العظيم وقوم هود بالريح العاتية التي أفنتهم وثمود بالصيحة أو الصاعقة التي قطعت قلوبهم وقوم لوط بالحجارة والبراكين والخسف وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة الذي أحرقهم .ومن ذلك ما سلطه الله عز وجل من الريح الشديدة الباردة على كفار قريش في غزوة الأحزاب حتى رجعوا خاسئين. قال الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} ] سورة الأحزاب:9[.

(ج)   تكفير ذنوب عباده المؤمنين بما يبتليهم به من المصائب المكفرة وتذكيراً لهم لعلهم يتوبون ويستغفرون .قال سبحانه : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}  ]سورة آل عمران :165[ وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولاحزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) البخاري(5642) مسلم (2573)

(د)   في تقدير هذه الأحداث عبرة وموعظة لمن يراها أو يسمع بها وقد نجاه الله منها فيسعى لأخذ أسباب الوقاية منها والبعد عن مسبباتها .قال الله عز وجل : {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}] سورة القمر:15-16[ وقال سبحانه : {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }] سورة آل عمران:137[

هذه بعض الحكم الإلهية من الكوارث الكونية ولا أدري بم يجيب عنها محمد العصيمي هل يردها ولا يقبلها ،أم أنه ينقاد لها ويصدق وحينئذ لابد أن يتراجع عن مقالته التي زل فيها هذا إن كان طالباً للحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .ثم إني اسأل هذا الكاتب اليس لك ذنوب تخاف أن يعاقبك الله بسببها وماذا تفهم من قوله سبحانه : {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}]سورة الشورى:30[ ؟

 

شبهتان وجوابهما

الشبهة الأولى : إن كون بعض الناس يعرفون وقت حدوث بعض الظواهر الكونية بالحساب قد يحيك في بعض النفوس ولكن هذا  لا يؤثر هذا عند أهل الإيمان وأهل الموازين الإلاهية للأحداث وذلك باعتقادهم أن ذلك إنما يكون بعلم الله عز وجل وحكمته وتدبيره وأن الله عز وجل هو الذي يحدد أوقاتها حيث يخوف بها عباده وينذرهم بقدرته العظيمة التي تسير هذه الأفلاك ولو شاء لطمسها عن عباده ،وحرمهم منها وحينئذ لاحياة ولا عمران على هذه الأرض .يقول شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى – عن ظاهرتي الكسوف والخسوف: ((وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافي كون الكسوف له وقت محدد يكون فيه ، حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار ،ولا يكون خسوف القمر إلا في وسط الشهر وليالي الابدار .ومن ادعى خلاف ذلك من المتفقهة أو العامة فلعدم علمه بالحساب ،وهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل ؛ إذ كل ذلك بحساب ،كما قال تعالى : {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}]سورة الأنعام:96[ وقال تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ]سورة الرحمن:5[ وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ  ]سورة يونس:5[ وقال : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } سورة البقرة:189[.

 ومن هنا صار بعض العامة إذا رأى المنجم قد أصاب في خبره بالكسوف المستقبل يظن أن خبره عن الحوادث من هذا النوع ؛فان هذا جهل ،إذ الخبر الأول بمنزلة إخباره بان الهلال يطلع :إما ليلة الثلاثين، وإما ليلة إحدى وثلاثين فإن هذا أمر أجرى الله به العادة لا يخرم أبداً ؛وبمنزلة خبره أن الشمس والقمر ،ومجاريهما علم ذلك ،وإن كان ذلك علما قليل المنفعة .

فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سبباً لما يقضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت ،أو لغيره ممن ينزل الله به ذلك،كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب ،وهو آخر الشتاء،كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء؛وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة –وهو السحاب الذي يخال فيه المطر- أقبل وأدبر ،وتغير وجهه،فقالت له عائشة :إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا؟فقال:( يا عائشة وما يؤمنني ؟قد رأى قوم العذاب عارضاً مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ]سورة الأحقاف:24[ ]مسلم :899[أ.هـ ]انظر مجموع الفتاوى 35/175[

ومع أن هناك من الظواهر الكونية ما يعلم حدوثه بالحساب إلا أن هناك منها ما لا يعرف مهما تقدم الإنسان في التقنية والعلوم، ونحن نسأل أهل التفسيرات المادية من الذي أعلم النبي بحدوث الريح العاتية أو الصاعقة المدمرة أو الزلازل والبراكين قبل حدوثها ؟كيف يفسر خروج النبي والمؤمنين معه من القرية المعذبة قبل حدوث هذه الظواهر المدمرة ونجاتهم منها ؟إنه الله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء والقادر على كل شيء هو الذي قدر هذه الأحداث بحكمته وعدله وهو الذي نجا أنبياءه وأتباعهم من هذه الحوادث المدمرة قبل وقوعها هو سبحانه الذي حدد لثمود ثلاثة أيام يتمتعون فيها ثم يحل بهم العذاب بعد ذلك.قال الله عز وجل : {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}] سورة هود:65-66[ هو سبحانه الذي أمر لوطاً عليه السلام أن يخرج مع أهله بالليل لأن الخسف والعذاب سينزل بقومه في الصباح .قال الله عز وجل : {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }] سورة هود:81[ وعلماء الفلك والجولوجيا المعاصرين ومع ما يملكون من تقنيات هائلة ترصد الظواهر الكونية فإنهم وإلى اليوم لا يستطيعون أن يعرفوا متى يحصل البركان والزلزال فسبحان الله رب العالمين .

الشبهة الثانية :قد يقول قائل إن هذه الكوارث إذا وقعت فإنها قد تأخذ بعض الصالحين أو من ليسوا من المكلفين كالأطفال ونحوهم .والجواب أن يقال :إن الله عز وجل إنما ضمن النجاة من عذابه في الدنيا للمصلحين الذين ينهون عن السوء ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .قال الله عز وجل : {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } ]سورة الأعراف:165[ ووقوع بعض الصالحين في العقاب هو تكفير لهم وتمحيص وهو خير لهم في الآخرة .وعقاب الله لهم إنما كان بسبب سكوتهم عن دفع الباطل وقول الحق .قال الله عز وجل : {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ]سورة الأنفال:25[ وعن زينب بنت جحش –رضي الله عنها – ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد أقترب فتح اليوم من روم يأجوج ومأجوج مثل هذه )وحلق بأصبعه الإبهام والتي عليها قالت زينب بنت جحش فقلت :يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟قال نعم إذا ظهر الخبث )) ]البخاري :  3346 [وأما الأطفال وغير المكلفين فنحن نقطع أن الله عز وجل أرحم بهم منا ومن والديهم ولكن هذه الرحمة مغيبة عنا ولعل منها كونهم يموتون قبل البلوغ وهم أطفال لم يتلوثوا بذنوب ولا تلبسوا بفتن وهم بذلك يؤهلون للجنة دار الرحمة والحبور والرضوان .

 

ولعله من المناسب في ختام هذا البحث أن أذكر ذلك الحوار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه بين نوح عليه السلام وبين ابنه الكافر والذي يظهر فيه الفرق بين من ينظر بالميزان الإلهي للأحداث والمتمثل في نوح عليه السلام وبين من ينظر إليها بالموازين المادية الصرفة والمتمثل في ابن نوح الكافر .قال الله عز وجل : {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}] سورة هود :42-43[ففي هذا الحديث الكوني الهائل والمتمثل في الطوفان العظيم الذي غطى الأرض سهلها وجبلها وكان موجه كالجبال نرى أن نوحاً عليه الصلاة والسلام المؤمن بربه سبحانه وقدرته وتدبيره لكل شيء وحكمته وعدله ولطفه لما نظر إلى هذا الحدث العظيم بهذا الميزان الإلهي المستقيم دعا ابنه ليلحق به في السفينة لينجو من عذاب الله تعالى وحذره بأن لا يبقى مع الكافرين الذين لهم العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر .وهنا لطيفة :حيث قال نوح لابنه : {ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}ولم يقل (مع الغارقين) أو( مع الهالكين ) لأن المصيبة العظمى هي في الكفر وليست في الموت غرقاً .ثم إنه بهذا الميزان الإلهي للحدث قال لابنه : { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ }  فليس ثمة اليوم إلا الله عز وجل الذي يعصم عباده المؤمنين ويرحمهم وينجيهم برحمته ومن كفر فلا عاصم ولا راحم له من دون الله عز وجل .

أما ابن نوح الكافر فإنه لما نظر إلى الحدث الطوفان الهائل بالنظرة المادية وفسرها بأنها ظاهرة فلكية تتمثل في طوفان أو فيضان عظيم ولم يربطها بقدرة الله عز وجل وحكمته وتدبره وسننه ما كان منه إلا أن ينظر إلا أسباب مادية تتعلق بها في نجاته فقال : {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} وماذا أغنى عنه الجبل حين انقطعت عنه رحمة الله عز وجل ؟ إنه لم يغني عنه شيئاً وإنما كانت عاقبه كما أخبر الله عز وجل : { قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ]هود:43[

هذه هي موازين الله عز وجل وموازين رسله وتلك هي موازين الجاهلية المادية وأهلها وأوجه بهذه المناسبة الخطاب والنصح الى نفسي وإخواني المسلمين إلى أن نتقي شر المعاصي والذنوب فهي سبب كل بلاء وكارثة وما أصابنا في هذه السنوات الأخيرة من قلة الأمطار وغلاء الأسعار وتسلط من الأعداء وكثافة في الغبار إنما هو بذنوبنا ومعاصينا حيث بلغت عنان السماء ولولا حلم الله عز وجل ورحمته ثم ما يقوم به أهل الدعوة والإصلاح في مدافعة الفساد لحل بنا ما حل بغيرنا من المثلات والكوارث وادعوا نفسي وإخواني المسلمين إلى التوبة النصوح وكثرة الاستغفار لعل الله عز وجل أن يرفع ما بنا من غبار مزعج وأسعار غالية وأمراض مستعصية وغيرها من المصائب قال الله عز وجل : {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}]سورة الأنفال:33[ وقال سبحانه : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا{يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}] سورة نوح:10-12[

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ونعوذ بمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .