الكسوف والخسوف ... تقدَم العلم وتأخَر الإنسان
20 شعبان 1429
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد،،،
في الماضي القريب كانت الحوادث الكونية ككسوف الشمس وخسوف القمر التي يقدرها الله عز وجل مجهولة حتى تقع فيشاهدها الناس؛ وفي هذا العصر – عصر ازدهار العلوم – تغير الأمر تماما فأصبح من الممكن معرفة زمان ومكان حصول هذه الظواهر قبل وقوعها بسنوات. ومما لا شك فيه أن العلم نعمة أنعم الله بها على عباده وقد حث الإسلام على العلم والتعلم وعمارة الأرض ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (الزمر: 9) وكتاب الله تعالى أنزل ليتدبره الخلق والتدبر لا يكون إلا بالفهم والعلم بالسنة وأقوال العلماء والعلم بدلالات الألفاظ ومعانيها والعلم بالكون وأحواله. ومما يجدر التنبيه له أن الله امتدح في أول الآية القانتين الذين يقومون الليل حذراً من الآخرة ورجاءاً لرحمته تعالى، وهذا العمل الذي هو القنوت والعمل للآخرة رجاء رحمة الله هو المقصود من العلم أما العلم الذي لا يورث عملاً فلا قيمة له.
لا شك أن الكفار قد سبقونا في هذا العصر في العلوم الطبيعية والإنسانية وعلوم الفلك وغير ذلك، لكنهم مع ذلك لم يستفيدوا من هذه العلوم في التعرف على الخالق الحكيم الذي أوجدهم من العدم وأوجد المواد والعناصر التي استفادوا منها وعرفوا كثيراً من أسرارها وسخروها في اشباع رغباتهم وشهواتهم الدنيوية، ومع ذلك لم يؤدِ بهم ذلك إلى الإستعداد للإخرة ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) (الروم: 7).
العلم الذي لا يزيد في الإيمان والتقوى لا فائدة منه لأن العمارة الحقيقية للدنيا تكون بتطويع ما فيها من إمكانات مادية وعلمية لعبادة الله وحده لا شريك له. ما الفائدة من معرفة حدوث الكسوف والخسوف للبشر؟ هل الفائدة حاصلة في الإستمتاع بمشاهدة هذه الظواهر؟ نجد أن الكفار يجعلون من هذه الحوادث فرصة للمتعة بمشاهدتها ومتابعتها كونها حدثاً فريداً يرون فيه أمراً عظيماً ومشهداً بديعاً تتداخل فيه الكواكب ويغطي بعضها بعضا. ولهم ذلك فهم كما ذكر الله عنهم في الآية السابقة غافلون عن المعاد والحساب فكل ما في هذه الدنيا بالنسبة لهم متعة وقضاء شهوة لا غير. ومما يؤسف له تقليد بعض المسلمين لهم ففي أحد الصحف السيارة جاء الخبر التالي: "ضمن دوره الفعال في خدمة وتوعية المجتمع: سايتك يفتح أبوابه للزوار الراغبين في مشاهدة ظاهرة الكسوفالكلي للشمس.. اليوم"[1]!!!
نحن المسلمون نختلف عن القوم اختلافاً كبيراً، فجميع ممارساتنا الدنيوية مرتبطة بالشريعة الربانية. لا يمكن أن يوجد شئ في هذه الدنيا إلا وللشريعة فيه حكم وجوباً أو استحباباً أو تحريماً أو كراهةً أو جوازاً. ومن العجب أن أحد الإخوة الدعاة عندما ذكرت له أنني استفتيت في مسألة من المسائل قال لي: هذه المسألة لا تحتاج إلى فتوى! وهذا كلام غير صحيح البتة، فكل شئ مهما كان صغيراً أو كبيراً مهماً أو غير مهمٍ لابد أن يكون للشريعة فيه حكماً.
ونختلف أيضاً عن الكفار في نظرتنا للحياة وما فيها من سماء وكواكب وجبال وبحار وأن الله – جل وعلا – هو الذي خلقها وهو المصرف لها المدبر لشؤنها، لا يقع شئ في الكون إلا بإذنه لا راد لقضاءه وحكمه ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الأعراف: 54) فالله وحده سبحانه القادر على تحريك هذه الكوكب وتصريفها فعندما يقدر سبحانه الكسوف يجعل القمر في مكان بين الشمس والأرض وكذلك الخسوف يجعل – سبحانه وتعالى – الأرض في مكان بين الشمس والقمر ولا أحد غير الله يستطيع أن يحدث كسوفاً ولا خسوفاً وإنما غاية ما يستطيعه الإنسان بتعليم الله له أن يعرف متى يحصلان. وهذا دليل على وحدانية الله – جل وعلا – وقدرته.
لو افترضنا أن مجموعة من الباحثين أو من غيرهم أرادوا إحداث كسوف أو خسوف في وقت لم يقدره الله – جل وعلا – فأنَّى لهم ذلك لعجز البشر المخلوقين وقدرة الخالق – جل وعلا – وحده. وفي موضوع مشابه لهذا ومتعلق به امتن الله على عباده في كتابه بتعاقب الليل والنهار الذين لا قوام للناس دونهما وبين أنه لا أحد غيره سبحانه يستطيع أن يأتي بأحد منهما ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ¤ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (القصص: 71-72).
إن الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله تعالى يخوف بهما عبادة فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عبادهوإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتىيكشف ما بكم)).[2] رواه مسلم. فالمسلم دائم الخوف من ربه لا يأمن من مكر الله ولا يقنط من رحمته وكما قال غير واحد من السلف: الخوف والرجاء بالنسبة للمؤمن كجناحي طائر إذا اختل أحدهما سقط الطائر وإن اعتدلا طار وارتفع.
وقد جاء ذكر الخسوف مرة واحدة في كتاب الله تعالى في سورة القيامة عندما ذكر الله جل وعلا القيامة وأهوالها ومقدماتها قال تعالى: ((فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ¤ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ¤ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ¤ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)) (القيامة: 7-10).
وقد كان من شدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه جل وعلا أنه خرج مسرعاً خائفاً وجلاً عندما كسفت الشمس حتى أنه أخذ درع إحدى نساءه ظناً منه أنه رداءه كما جاء في صحيح مسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ففزع فأخطأ بدرعحتى أدرك بردائه بعد ذلك))[3] الحديث.
وقد نقل النووي رحمه الله تعالى سبب فزعه صلى الله عليه وسلم فقال: قال القاضي يحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو الخوف كما في الرواية الأخرى (يخشى أن تكون الساعة) ويحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو المبادرة إلى الشيء (فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه) معناه أنه لشدة سرعته واهتمامه بذلك أراد أن يأخذ رداءه فأخذ درع بعض أهل البيت سهوا , ولم يعلم ذلك لاشتغال قلبه بأمر الكسوف , فلما علم أهل البيت أنه ترك رداءه لحقه به إنسان. أ. هـ.[4]
فالواجب على المسلم أن يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم وأن يخاف ويوجل عند حلول هذه الظواهر الكونية كالكسوف والخسوف والأعاصير والفيضانات وغيرها، فنبينا صلى الله عليه وسلم جر رداءه[5] فزعاً عندما كسفت الشمس وهرع إلى الصلاة والتضرع لله ودعاءه، وكان إذا رأى الريح أو الغيم أقبل وأدبر خشية أن يكون عذاباً كما روى مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عائشة قالت: ((كانرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجههوأقبل وأدبر فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك قالت عائشة فسألته فقال إنيخشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا رأى المطر رحمة))[6].
كثير من المسلمين في عصر التقدم العلمي وتأخر الإنسان لا يقيمون رأساً لهذه الآيات التي يخوف الله بها عباده لينيبوا إليه ويتذكروا، بل وصل الحال بكثير من المسلمين أن يواقعوا المعاصي أثناء حدوث هذه الحوادث العظيمة من خلال مشاهدة الفضائيات أو الإنترنت أو التسكع في الأسواق وقليلٌ هم الذين يتأسون برسولهم صلى الله عليه وسلم ويهرعون للصلاة والذكر والدعاء.
رحم الله الحسن البصري إذ قال: المؤمن يعمل بالطاعات، وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. وأصدق منه قول الباري عز وجل: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ¤ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ¤ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) (الأعراف: 97-99).
1 جريدة الرياض، العدد 14648، في 29 رجب 1429 هـ.
[3] صحيح مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.
[4] شرح صحيح مسلم للنووي، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف.
[5] صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الصلاة في كسوف الشمس.
[6] صحيح مسلم، صلاة الإستسقاء، التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر.