إن الله عز وجل أغير على دينه من عباده، وقد أهلك جبابرة القرون الذين خلوا لما بَغَوا وبَلَغُوا في الظلم والإفساد مبلغاً عظيماً، قال الله تعالى: )فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55الزخرف: ٥٥، وقال قبلها: )وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ((25)الزخرف: ٢٣ – ٢٥، وقال عن فرعون وقومه: )فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ( (136)الأعراف: ١٣٦، وقال عن أصحاب الأيكة الظالمين: )وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ( (79)الحجر: ٧٨ – ٧٩ .
وفي زواجر القرآن من أخبار الأمم ما يدعو للاعتبار، وقد قال الله تعالى على سبيل الإجمال: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ( (47)الروم: ٤٧. وإن أمم الغرب اليوم قد بلغت من الفساد والإفساد والدعوة إليه بالقوة العسكرية والسياسية والإعلامية عبر منظماتهم الدولية المختلفة -ومنها هيئاتهم الحقوقية- مبلغاً يؤذن بقرب زوالهم، يعلم هذا من أدرك واقع القوم، ثم عرف الله وآمن بأسمائه وصفات جلاله وكماله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أنه ملك جبار عزيز مهيمن ذو انتقام، يغضب، ويأسف، ويغار على محارمه، فلا أحد أغير من الله[1]، ولا شيء أغير من الله[2]، وكل ذلك قد ثبت في الصحيحين .
وقد أهلك الله من الأمم الماضية من لم يعرف إلاّ بذنب مع الكفر، كما أهلك قوم لوط بفاحشتهم، وقوم شعيب ببخسهم الناس أشياءهم، وقوم عاد بتكبرهم وتجبرهم، وغيرهم من الأمم التي جعلها الله أحاديث للناس، فبادت بعدما سادت وعادت أثراً بعد عين، وأمم الكفر اليوم قد بلغت من الاستطالة على المحارم مبلغاً تضارع فيه تلك الأمم السالفة، فظلمها لأهل الإسلام وغيرهم من الأمم المستضعفة باد، واستشراء الفواحش فيهم ظاهر، فما أقرب حلول نقمة الله بهم، وسواء طال الزمن أم قصر فوالله لَيَجْعَلَّنَّهم اللهُ ببغيهم على الناس وعلى أنفسهم بتجاوزاتهم حدود الله أحاديث وذكريات وعبراً للمعتبرين كشأن أمم الماضين، فقد اقتضت ذلك حكمته، وجرت به سنته سبحانه.
ومن لم تكن له معرفة بالسنن وأخبار الأمم يجزم بذلك إذا عرف ربه، وصدق وعده، قال الله تعالى: )فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( (46)الحج: ٤٥ – ٤٦، وقال عز شأنه: )وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ( (59)القصص: ٥٨ – ٥٩، وقال: )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ( (48)الحج: ٤٨، وقال أصدق القائلين سبحانه: )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا( (10)الطلاق: ٨ – ١٠،) و َكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ( (37)ق: ٣٦ – ٣٧.
فهل من شك بعد هذه الآيات؟ فكيف إذا تضافرت مع دلالتها، دلالة نصوص أخرى جاءت مؤذنة بهلاك من قارف ذنوباً مخصوصة نرى بعض أمم الكفر لا تبالي باقترافها اليوم كالفواحش التي ما استشرت في قوم إلاّ بادوا، ومن أعظم تلك الذنوب المؤذنة بزوال القوم استطالتهم وسَبِّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوعهم في عرضه جهاراً، وإعلان ذلك للمسلمين، وقد قال الله تعالى:)مَنْكَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ( (16)الحج: ١٥ – ١٦، وقال سبحانه: )إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا( (57)الأحزاب: ٥٧، فأوجب الله لعنة المتعرضين لرسوله بالأذى في الدنيا قبل الآخرة، ولعنتهم في الدنيا مقتضية لانفكاك رحمة الله بهم، واستئصال العذاب لهم، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( (95)الحجر: ٩٥، وقال: )إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ( (3)الكوثر: ٣.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبّه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذ لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر و هو ممتنع علينا، حتى نكاد نيأس، إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عَنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إنْ كُنَّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً بما قالوه فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده و تارة بأيدي عباده المؤمنين"[3].
والمحصلة: )لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ( (198) آل عمران: ١٩٦ – ١٩٨، جعلني الله وإياكم منهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري 4358، ومسلم 2760، وروياه في مواضع.
[2] البخاري 4924، ومسلم 2762.
[3] الصارم المسلول، 1/122.