18 رجب 1439

السؤال

ما قول فضيلتكم في من يقول من أهل السنة: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا شخص أغيرُ من الله) ليس بصريح في إثبات "الشخص" لله عز وجل من جهة اللغة؛ لعدم إضافة أفعل التفضيل فيه إلى ما بعده، بل ذُكِرَ المفضَّل بعده مجروراً بـ«من»، وهذا لا يدل على الجنس، كقولنا: لا شجرة أطول من زيد، ولا رجل أشجع من الأسد، ونحو ذلك؟ بيِّنوا لنا بيانا شافيا، أدام الله فضلكم.

أجاب عنها:
عبد الرحمن البراك

الجواب

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد: 
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا شخصَ أغيرَ من الله، ولا شخصَ أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين، مبشرين ومنذرين، ولا شخصَ أحبُّ إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة)، وترجم به البخاري فقال: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا شخصَ أغيرُ من الله)"، ثم ذكر الحديث بلفظ (لا أحدَ)، بلفظ قريب من رواية مسلم.

   وقد استدل جمع من أهل السنة بهذا الحديث على جواز إطلاق الشخص على الله،   ولفظ الحديث يدل على ذلك، كما يدل حديث أسماء في الصحيحين: (لا شيءَ أغيرُ من الله) على أن الله شيء.

     ومعنى الشخص في اللغة هو القائم بنفسه الظاهر، وليس هذا مما يمتنع على الله، بل مما يصدق على الله؛ لأنه ثابت في حقه، والذين منعوا إطلاقه على الله من شراح الحديث إنما أُتوا من تفسيرهم الشخص بما يمتنع إطلاقه على الله عندهم، أو يمتنع مطلقا، وإليك قول الرازيِّ في لفظ الشخص في الحديث، قال في تأسيس التقديس: "في هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما؛ الأول: الشخص، والمراد منه الذات المعيَّنة والحقيقة المخصوصة؛ لأن الجسم الذي له شخص وحجميَّة يلزم أن يكون واحدًا؛ فإطلاق اسم الشخصيَّة على الوحدة إطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر".

     أقول: تضمن هذا الكلام أمورا:

الأول: أن الرازيَّ يذهب إلى نفي إطلاق الشخص على الله؛ لذلك يجب تأويله عنده.

الثاني: أنه فسَّر الشخص بما هو ممتنع ـ عنده ـ إطلاقه على الله. قال: "الشخص: الذات المعيَّنة والحقيقة المخصوصة"، وزعم أن هذا شأنُ الجسم الذي له شخص وحجميَّة، ومن المستقر عند الرازي في مذهبه ومذهب طائفته أن الله ليس بجسم، فظهر من ذلك أن نفيه إطلاق الشخص على الله بالمعنى الذي ذكره مبنيٌّ على استلزامه للجسم، وما يستلزم الممتنع فهو ممتنع بداهة، فيقال: إن لفظ الجسم هو من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلا، ولم يرد في الشرع ذكره في حقِّ الله إثباتا ولا نفيا، وتفسير الرازي الشخص بأنه "الذات المعيَّنة والحقيقة المخصوصة" ليس مما يمتنع على الله، بل مما يجب إثباته؛ لأن خلافه يقتضي أن يكون وجود الله وجودا مطلقا غير معيَّن، والوجود المطلق لا يوجد مطلقا إلا في الذهن؛ فكل موجود في الخارج فهو معيَّن، فعُلم أن نفي الشخص عن الله بالمعنى الذي ذكره الرازيُّ يستلزم أن الله ليس له حقيقة في الخارج.

      ويعلم مما تقدم أيضا أن الاسم المنفي بـ (لا) في الحديث جاء بثلاثة ألفاظ: أحد، وشيء، وشخص؛ ودلالتها على الله واحدة، فهو تعالى أحدٌ وشيءٌ وشخص، فمن فرَّق بينها في الدلالة والصيغة واحدة فهو مفرق بين المتماثلات، وقد نصّ بعض أئمة النحو كابن مالك في التسهيل على أن (أحدا) يختص بالعاقل، ومن تدبَّر ذلك وجده صحيحا، وقد ورد (أحدٌ) في القرآن في مواضع كثيرة، وكلها مختصة بالعاقل، كذلك يظهر للمتأمل أن لفظ الشخص نظير أحد في اختصاصه بالعاقل.

    وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض ما قاله الرازي، وذكر الأحاديث الدالة على إثبات الشخص لله تعالى مما يعلم منه ضرورة أنه رحمه الله ممن يثبت إطلاق لفظ الشخص على الله، فليرجع إلى كلامه في كتابه بيان تلبيس الجهمية (ج7 ص 391)، وأثبت هذا الإطلاق أيضا تلميذه ابن القيم في زاد المعاد (ج3 ص 595).

      وأما من ذهب من شراح الحديث إلى منع إطلاق الشخص على الله محتجين بأن لفظ الحديث لا يدل على المطلوب من جهة اللغة، فما زعموه من عدم الدلالة إنما يتعلق بأفعل التفضيل المضاف، كما ذكروا، ولفظ الحديث متضمن لنفي الجنس بـ (لا)، وأفعل التفضيل فيه غير مضاف، بل المفضَّل عليه مجرور بمن لا مضاف إليه، ونظير لفظ الحديث أن تقول: لا رجلَ أكرمُ من زيد، ومعلوم أن هذا يدل على أن زيدا رجلٌ قطعا.   

     أمَّا لو كان لفظ الحديث: (الله أغيرُ شخص) فإنه يمكن ـ احتمالا ـ ألا يدل اللفظ على إطلاق الشخص على الله، قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/166): " وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه، ووجهُه أن قوله: (لا شخص) " نفيٌ من إثبات، وذلك يقتضي الجنس، كقولك: لا رجلَ أكرمُ من زيد، يقتضي أن زيدا يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: (لا شخصَ أغيرُ من الله) يقتضي أنه سبحانه يقع عليه هذا الاسم".

    قال عبد الله بن الإمام أحمد بعد ذكره لحديث (لا شخصَ أغيرُ من الله): " قال عبيد الله القواريري [أحد رجال هذا الحديث عند الإمام أحمد]: "ليس حديثٌ أشدَّ على الجهمية من هذا الحديث". مسند الإمام أحمد (30/105) ط. مؤسسة الرسالة.  

     وبمناسبة قول القواريري رحمه الله ننبه على أن كلَّ الذين منعوا من إطلاق الشخص على الله من شراح الحديث هم من أهل الكلام النفاة؛ فالحامل لهم على نفي ما دل عليه الحديث هو أصل مذهبهم في صفات الله، فلا يغتر بهم، عفا الله عنهم. ومن أحسنهم كلاما في هذا ابن الأثير حيث قال في كتابه النهاية (2/451) عند الحديث: "المراد بالشخص في حق الله تعالى إثبات الذات"اهـ. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد. أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك في السابع عشر من رجب 1439ه.