السؤال
كثر في كلام الأطباء النفسيين في سائل الإعلام بأن الأمراض النفسية كالاكتئاب والحزن وغيرها تصيب الصالحين كما تصيب غيرهم على حد سواء، ويستشهدون بأن بعض أئمة المساجد والدعاة يراجعونهم في عياداتهم، فهل يسلم لهم ذلك؟ فإننا نعلم بأن الله عز وجل ضمن الحياة الطيبة لمن آمن وعمل صالحا.
الجواب
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن سنة الله في العباد أن العوارض البشرية من المصائب الحاصلة بأسباب كونية ينشأ عنها آثار جسدية من جراحات وأمراض ظاهرة أو خفية وآثار نفسية، من هموم وغموم وأحزان وخوف وقلق، كل ذلك يعرض للأبرار والفجار والمؤمنين والكفار، حتى الأنبياء، فهذا أيوب عليه السلام مسه الضر في بدنه وأهله، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ) الآيات، وهذا ذو النون عليه السلام التقمه الحوت وهو مليم، فنادى في الظلمات ألا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال الله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)، وهذا يعقوب عليه السلام عاش في الحزن طويلا، فابيضت عيناه من الحزن، وهو كظيم، وهذا إبراهيم عليه السلام يهدده قومه بالقتل والتحريق، حتى ألقوه في النار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قال الله: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وهذا موسى عليه السلام يخرج من مصر خائفا، (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وهذا عيسى عليه السلام يسعى اليهود لقتله وصلبه، قال الله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) إلى قوله: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يؤذيه أهل مكة أنواع الأذى الجسدية والنفسية، ويهددونه، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وبعد الهجرة آذاه اليهود والمشركون، حتى شجت رأسه، وكسرت رباعيته، وقُتل من قُتل من أصحابه، ومعلوم أن كل ذلك مجلبة للأحزان والهموم والغموم، ومع ذلك فهم يتمتعون بأعظم نصيب من الحياة الطيبة الممكنة في هذه الدنيا بما أعطاهم الله من الإيمان بالله، والصبر على أقداره، والرضا عن الله، والرجا لموعوده؛ من مضاعفة الأجور والفرح والسرور بلقاء الله يوم النشور.
وأتباع الرسل من المؤمنين على طريق النبيين في الابتلاء والصبر واليقين، وفي الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له)، وكذلك الكفار والفجار تجري عليهم هذه السنن الكونية، وتصيبهم القوارع والمصائب الجسديه والنفسية، ولكنهم يفقدون أسس الحياة الطيبة، من الإيمان والصبر واليقين والرضا والرجاء، فهم يألمون كما يألم المؤمنون، ولكنهم لا يرجون من الله ما يرجو المؤمنون، كما قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، لذلك فهم في هذه الدنيا في شقاء عاجل، وهم معذبون بنفس ما يطلبون به اللذات والسرور والمتاع، (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)، وقال تعالى: (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ)، لذلك فهم يقاومون ما يجدونه من الآلام والحسرات النفسية وغيرها بتناول المهدئات والمخدرات والمسكرات، فلا يظن أنهم في الحياة الطيبة إلا جاهل بحقيقة حالهم، وجاهل بحكمة الله في تدبيره، ومنشأ الغلط الحامل على هذا السؤال تصور أن الحياة الطيبة إنما تكون بصحة البدن والسلامة من المصائب، وتيسير أسباب اللذة والمتعة، وهذا لا ينفع مع خواء الروح والقلب من الإيمان بالله والرضا به وعنه سبحانه وتعالى، فالنعيم الحقيقي هو نعيم القلب، لا نعيم الجسد، فالأبرار في نعيم في الدنيا والآخرة، والفجار في جحيم في الدنيا والآخرة، وذكر ابن القيم رحمه الله أن قوله تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)، أن ذلك النعيم في دورهم الثلاثة كلها، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار فهم في نعيم دائم، ويشهد لهذا قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وبين ما يبتلى به المؤمنون من عوارض نفسية، فهم في نعيم بحسب إيمانهم صبرهم ورضاهم عن ربه، والله أعلم.