السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاة عمري 16 سنة أعاني من وساوس في الذات الالهية، ثم استطعت تجاوزها نوعا ما، ولكن في رمضان كنت أقرأ القران بجد، واحاول التقرب من الله، وكنت أساله أن أكون من المقربين عنده، ولكن نفسي الأمارة بالسوء بدأت تشككني في عدل الله، وفي ذاته ووجوده، وفي النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا صرت كلما فتحت القران، أو أردت الصلاة ينقبض قلبي، و أصبحت أكره كل شيء، أريد الرجوع الى الله، وأريد أن استشعر قربه وحبه وحب نبيه الكريم، لا أريد أن أخسر دنياي واخرتي، إضافة أنني لم أعد استطيع التحكم بافكاري، علما اني اقضي معظم وقتي في عزلة.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
وبعد فأنت بفطرتك تعلمين أن الله تعالى ربك وخالقك، ويؤيد الفطرة دليل العقل القاضي بأن كل حادث لابد له من محدث، وكل مخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، وإلاّ لما وجد المخلوق.
ومن كان مؤمنا بهذا القدر فالشيطان لايتركه بل يوسوس له بأسئلة لا تضره: كمن خلق الله!
والحل أن يغفلها المؤمن، ويستعيذ بالله من الشيطان، وليس ذلك هروبا من الواقع بل قول بموجب الضرورة الفطرية التي يجدها في نفسه، وبموجب الدليل العقلي.
أما من تلوثت فطرته، فخبا إيمانه واختل عقله فمعه جدل آخر، مثل هذا نبين له الدليل العقلي ونشرح له وجهه كأن نقول: كل مخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، وإلاّ لما وجد الخلق يوضح لك ذلك المثال الآتي:
طلبت الأخت رقم (1) من أختها رقم (2) كأس عصير..
لنفترض أن أختها أحضرت لها عصير برتقال طبيعي مزين بالليمون في طبق مرتب جميل، فلما جاءت به أمامها قالت رقم (1): من أين هذا العصير.
قالت رقم (2) طلبته من أختي رقم (3)، سألت رقم (1) رقم (3) من أين هذا العصير، فقاالت من صديقتي رقم (1)، سألت صديقتها رقم (1) فقالت من صديقتي رقم (2)...
هل يمكن أن يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية أو لابد من أن ينتهي إلى صانع لذلك العصير الموجود أمامها؟
الجواب: لابد أن ينتهي إلى صانع وإلاّ لو تسلسل الأمر كل واحد يطلب من غيره إلى ما لا نهاية لما وجد العصير، فوجوده دليل صنعه، وإذا كان الحال أنه موجود فلابد له من مصدر صنعه في النهاية، فكل عصير له عاصر ولابد لكن لا يلزم أن يكون للعاصر عاصر! وكذلك البدهية التي تقول: كل مخلوق له خالق، ولايلزم أن يكون لكل خالق خالق!
وإذا كان في مثل كأس العصير البسيط لا يقبل في حكم العقل القول بتركبه صدفة! فلو قال قائل: ثار بركان وحصل انفجار فتولد هذا الكأس الذي جلبناه لك لما قبلت ذلك! ولأيقنت أن لهذا العصير صانع عالم بالمقادير، له قدرة، وإرادة، وحكمة إز زينه باليمون ولم يزينه بالحنظل! وصفات أخرى ربما أمكنك استشفافها من صنعته، فكيف بعالم كبير فيه من أنواع الحيوانات والأنهار والبحار والمخلوقات ما أذهل العقول بعضه!
وليس غرضي هنا إثبات الخالق بأدلة العقل فهذا شأن فيه كتب كثيرة وتآليف غنية ولعلك لا تحتاجينه أصلاً بل المقصود أن أبين لك أن مثل هذا الجدل في إثبات الخالق قد يحتاجه من أصيب في فطرته، وكذلك الجدل في النبوة وغيرها من قضايا الاعتقاد الكبرى، وإلاّ فضرورة افتقار المخلوق إلى خالق أمر مغروز في النفوس لا يحتاج إلى مثل هذا ولا غيره مما يقرره النظار، بل هو شأن فطري يجده المرء في نفسه كما يجد الصغير حديث الولادة في نفسه توجهاً لرضاعة بغير تعليم ولا دليل عقل ولا تدريب!
وهذا الأمر الفطري لايمكن أن يهتز بدليل صحيح لأن خلافه باطل، بل الدليل الصحيح يؤيده، فعلم أن ما يطرأ عليه مجرد وساوس وشبهات ولهذا أرشد صلى الله عليه وسلم المؤمن -والكلام في شأن المؤمن الذي نشأ في بيئة مؤمنة لا الملحد- أرشده لسبيل التعامل مع تلك الخواطر التي مصدرها وساوس الشيطان، فقال كما في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((يأتي الشَّيطانُ أحدَكُم فيقول: مَنْ خَلَقَ كذا؟ مَن خَلَق كذا؟ حتَّى يقول: مَنْ خَلَقَ ربَّك؟ فإذا بلغَه فليَسْتَعِذْ بِالله وليَنْتَهِ))؛ والمعنى: إذا عَرَضَ له الوسواس، فيلجأ إلى الله -تعالى- في دفع شره، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد، والإغراء؛ فليُعرِض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، ولهذا قال الهيتمي في جوابه السائل عن دواء الوساوس: "له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم، كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها، وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليستعذ بالله ولينته".
بل نوصيك فوق الإعراض بأن ترغمي الشيطان كلما قذف في نفسك هذه الوساوس وذلك بالإقبال على الذكر أو الصلاة أو العبادة، فهذا يعكس عليه مقصوده، وما يلبث أن يطرده عنك.
فالشيطان غرضه من هذه الوساوس:
1- تحزين المؤمن، وإقلاق نفسه.
2- أن يسترسل المؤمن مع هذه الوساوس حتى يحدث له اضطراب نفسي يخرجه عن حيز الإيمان.
وكل ذلك نبه إليه صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة)؛ يعني لما لم يستطع أن يقذفه في الفواحش ويزين له الموبقات لجأ إلى وساوس لا تؤثر شيئاً لو أعرض المؤمن عنها بل قد تنقلب على الشيطان حيلته وذلك إن استعظم المسلم ما يجد وكرهه وساءه، فقد كان شيء من ذلك يعرض لبعض الصحابة رضوان الله عليهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! فقال: (أو قد وجدتموه)؟ قالوا: نعم! قال: (ذاك صريح الإيمان)؛ يعني إكباركم الحديث عنه وبغضكم له صريح الإيمان المستقر في فطركم.
ولهذا أرشدهم في الحديث الآخر للعلاج بقوله: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته).
فالمطلوب منك -رعاك الله-:
1- الاستعاذة بالله ومن ذلك الجأ إليه وسؤاله أن يذهب عن وساوس الشيطان، لا تملي سؤاله فهو عبادة يحبها يأجرك عليها ويحقق لك مطلوبك بعدها.
2- الإعراض عن الوساوس، وتذكري أنت تضطربين وتقلقين من مجرد وساوس لا دليل يصححها ولا برهان معها، فالحل الإعراض عنها.
3- راغمي الشيطان بإنكار قلبك لما يطرح واستكباره فأنت تؤجرين على ذلك.
4- اعكسي مقصود الشيطان باللجإ إلى عبادة الله تعالى من ذكر وصلاة وزكاة وصيام، وكلها لها أثرها في رد الوسوسة.
5- حافظي على الأوراد الراتبة فهي حرز من الشيطان وشره، وبلاسيما أربعة أذكار:
أ- أذكار الصباح، ب- أذكار المساء، ج- أذكار النوم، د- أذكار الاستيقاظ
ولاسيما ما لها خصيصة في الوقاية من الشيطان ومن أهمها:
أ- آية الكرسي فقد صح أن من قرأها قبل نومه لم يقربه شيطان حتى يصبح.
ب- قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مائة مرة في الصباح (بعد الفجر)، ومائة مرة في المساء (بعد العصر)، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيمن قالها في الصباح: "كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي"، قال العلماء الأفضل أن يأتي بها أول اليوم كاملة ليكون الحرز له من أوله.
ج- الأدعية الراتبة التي فيها الاستعاذة بالله، وارجعي في ذلك إلى بعض كتب الأذكار الصحيحة، ومن أقربها وأيسرها (حصن المسلم) للشخ سعيد بن وهف القحطاني، وإن شئت فالكلم الطيب، وإن شيئت ما هو أوسع وأكبر فالأذكار للنووي، ولهذه الطتب طباعات اعتنت ببيان الصحيحح فاحرصي عليها، ومن الأذكار الثابتة في هذا قول: "للهم فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، ربَّ كلِّ شيء ومليكَه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفْسي، وشرِّ الشيطان، وشَرَكِه" إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
أسأل أن يثبت الإيمان في قلبك، وأن يشرحه للإسلام، ويهديك إلى خيره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.