8 صفر 1438

السؤال

تكرر في تفسير ابن عاشور رحمه الله تفسيره لآيات هداية الله للمهتدين بخلْق الإيمان في قلوبهم، كقوله تعالى: (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52]، وكذلك تفسيره لإضلال الضالين بخلق الضلالة في قلوبهم كقوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35].
فما معنى كلامه؟ وهل ما قرره هو مذهب الأشاعرة؟ وما هو مذهب أهل السنة في ذلك؟

أجاب عنها:
عبد الرحمن البراك

الجواب

ج: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن أهل السنة يؤمنون بأن الله خالق كل شيء، كما أخبر سبحانه وتعالى في قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، فيدخل في ذلك العموم ذواتُ العباد وصفاتُهم وأعمالُهم الظاهرة والباطنة، ومن ذلك ما يقوم بالعباد من الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي، والهدى والضلال، وكلُّ ذلك بقدرة الله ومشيئته، وبعلمه القديم؛ فإنه تعالى يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وله سبحانه في كل ذلك حكمة بالغة، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وقال تعالى بعد أن ذكر أصناف أوليائه: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) إلى قوله: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)، فتبين بهذا أن أهل السنة يثبتون عموم القدرة والمشيئة والخلق لله تعالى، خلافا للقدرية المكذبين بالقدر، ومنهم المعتزلة، ويثبت أهلُ السنة لله تعالى كمال العلم والحكمة، خلافا للجهمية الجبرية ومن تبعهم من الأشاعرة وغيرهم، وإثبات العلم والحكمة لله هو ما تضمنه اسمه تعالى العليم والحكيم من أسمائه الحسنى، وكثيرا ما يقرن الله بين هذين الاسمين، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا)، وقال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وقد أثنى سبحانه على نفسه بكمال الحكمة والعلم مجمَلا ومفصَّلا في آيات كثيرة لا تحصى.
وبعد؛ فلما كان لفظ الإيمان يشمل الإيمان القائم بالمؤمن في قلبه وعلى جوارحه؛ الذي هو من صفته وعمله، ويشمل المؤمَن به، ومنه: الله وصفاته وكلامه، من أجل ذلك اعتبر إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله لفظ الإيمان مجملا، فلا يجوز أن يقال: إن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، فروى ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة (2/176) عن الإمام أحمد أنه قال: "من قال في الإيمان: إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع"، وهذا نظير قوله في اللفظ، وقرر القاضي أبو يعلى في كتاب الإيمان (ص459) أنه لا يجوز إطلاق القول في الإيمان إنه مخلوق أو غير مخلوق، ويؤيد ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وإذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه كقوله: (لا إله إلا الله)، وإيمانِه الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم؛ فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل" اهـ من مجموع الفتاوى (7/664).
وأقول: وأما الأشاعرة فهم من المثبتين للقدر فيثبتون عموم المشيئة والقدرة وعموم الخلق، فهم في هذا موافقون لأهل السنة؛ فعندهم أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة لله تعالى، فإذا قال بعضهم: الإيمان مخلوق فالأظهر أنهم يريدون ما يقوم بالعبد من ذلك، ولكن يرد عليهم ما في هذا اللفظ من الإجمال، فلا بد من الاستفصال ممن أطلق ذلك كما تقدم، وبالاستفصال يتضح الأمر ويزول الإشكال، وعليه فقول ابن عاشور إن الهدى يكون بخلق الإيمان في القلوب قول مستقيم، بقطع النظر عن مذهبه الذي ينتسب إليه، والله أعلم. وصلى الله وسلم على محمد.
قال ذلك عبد الرحمن بن ناصر البراك في ضحى السبت لخمس مضين من صفر ١٤٣٧هـ.