صورة نموذجية راقية , تلك التي يتمثل فيها الداعية إلى الله ببسمة نقية , ويد حانية , وقلب ملىء بالشفقة والرحمة على الناس , فيمسح دمعة الباكي , ويصف الدواء للعليل , وينير السبيل للجاهل , وييسر الهداية لكل حيران .
إنها صورة ذاك الداعية الرفيق الرحيم , الذي يبذل نفسه ويمنح صبره لأجل رسالته أن تحيا وتدب فيها القوة من جديد , إنه في كل حال يقتدي بالرفيق الأول والرحيم الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ..
القرآن يرسم الصورة الصائبة :
لقد حثَّ القرآن على اعتماد الرفق خياراً مبدئياً في نهج الدعوة إلى الإسلام ، واعتبره ركناً وأساساً مهماً يقوم عليه العمل الرسالي للفكر والعقيدة الإسلامية , فقد قالت الآيات : " واخفض جناحك للمؤمنين " , أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم .
ويقول سبحانه : " واصبِر على مَا يقُولُونَ واهجُرهُم هَجراً جَمِيلاً " , والهجر الجميل : أن لا تتعرّض لخصمك بشيء ، وإن تعرّض لك تجاهلت , فقد أمره بالصبر على ما يسمعه من الأقوال البذيئة من خصومه ، صبراً لا عتاب فيه على أحد ، ولا تكبر ، أو دفاع عن الذات ، بل تركهم إلى الله مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم أذى يحول بينهم وبينه مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه ، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل .
ويقول سبحانه أيضا : " وَلا تَستَوي الحَسنَةُ وَلا السّيّئةُ ادفَعْ بالَّتي هِي أحسَنُ فإذا الذِي بَينَكَ وَبينَهُ عَداوةٌ كأنَّهُ وَليٌ حَمِيمٌ " فتقول له الآيات ههنا أن : اصبر على الاَذى ، واكظم الغيظ الذي تبتلى به ، واحلم عمن أساء إليك ، وتعامل مع مصدر آلامك تعامل العطوف الكريم برفق ولطف يمس قلوبهم القاسية فيحولها من قسوتها وجفوتها عليك إلى تعاطف وتجاذب إليك .
كما بينت الآيات أن الرفق هو دأب الأنبياء ، فإن الله تعالى لما أرسل موسىمحمد إلى فرعون الطاغية قال " اذهبا إلى فرعون إنهطغى * فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " .
وتصل الآيات إلى غاية الرفق وعظماللين والسهولة في حال إبراهيم، حين دعا أباه إلى الإسلام فصرخ به عمه المشرك وقال: "يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً " - فردّ إبراهيم بكل رفق ولينقائلاً- : " سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً " , فكان الأنبياء عليهم السلاميصِلون بالرفق واللين إلى ما لا يصِل إليه غيرهم كما بينت الآيات .
وقد لازم الرفق النبي الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم في مختلف أحواله , في الغضب والرضا , في السعادة والحزن وحتى في وقت الآلام والمضار .
فيوم تشتد به الخطوب ويدميه قومه يدعو لهم : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " , ويوم يطلب منه البعض أن يدعو على من آذاه فإذا به يقول : " إني لم أبعث لعانا " أخرجه مسلم , فغلبت رحمته غضبه , وغلب رفقه شدته .
لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم أن اللفظ القاسي ورد الفعل القاسي , وصاحب القلب القاسي إنما هو سبب نفور الناس وتحاشيهم القرب منه والتفاعل معه .
والمتأمل في القرآن يجد أنه قد عظم مقام الرفق وأمر به ، بلقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم"
** رؤية محمد صلى الله عليه وسلم لخلق الرفق
لقد نظر النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفق على أنه خلق أساسي في تكوين شخصية الداعية المسلم , فعلم صلى الله عليه وسلم أمته أن الله يحب صاحب الرفق ويحب السلوك الرفيق كله , فيقول :" إن الله يحب الرفق في الأمر كله " أخرجه البخاري .
وعلمهم أن الرفق يزين الأمور فقال صلى الله عليه وسلم :"إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه" أخرجه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو لأصحاب الرفق الذين يطبقون رفقهم في تعاملهم للناس ويحرصون عليه فيقول : "اللهم من رفق بأمتيفارفق به"
وجعل الرفق نوعا من النعم الغالية التي إذا دخلت على أهل بيت فليعلموا لأن الله قد أراد بهم خيرا فيقولصلى الله عليه وسلم : " إذا أراد اللهبقومٍ خيرًا أدخل عليهم الرفق " أخرجه في المسند .
بل إن قيمة الثواب في استعمال الرفق تكثر أضعافا عن استعمال غيره , فيخاطب زوجته عائشة رضي الله عنها قائلا : " يا عائشة ، إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي علىالعنف "مسلم .
على الجانب الآخر فإن المرء الذي حرم الرفق فإنه قد فقد شيئا عزيزا وقيمة غالية , فيقول صلى الله عليه وسلم : " من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله"مسلم .
بل حرص الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم رسله والدعاة الذين كان يرسلهم للبلاد ليوصلوا رسالته هذا الخلق النبيل ويؤكد معهم عليه فهو يوصي معاذ بن جبل وابا موسى الأشعري لما أرسلهم لليمن فائلا : " " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا "البخاري , وأن هذا الخلق جدير بأن يباعد صاحبه عن النار فيقول : " ألا أخبركم بمن يحرم على النار يحرم كل قريب هين لين سهل " .السلسلة الصحيحة
** عندما يعم الرفق الحياة ..
أكد النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الرفق والسهولة في جميع التعاملات مهما صغرت , ومهما كان المتعامل معه , تحكي عائشة زوجته رضي الله عنها موقفا مع بعض خصومه فتقول : " دخل رهط من اليهودعلى النبيمحمد فقالوا: السام عليكم ( يعني الموت عليكم ) قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق فيالأمر كله )
ولما دخل أعرابي المسجد وبال فيه , قام الصحابة إليه ليمنعوه، فمنعهم النبي الأكرم صلى الله عليه وسلموقال: لاتعجلوا عليه ، حتى إذا أنهى بوله وقام ليذهب، دعاه وقال: ( إن هذه المساجدلم تبن لهذا وإنما بنيت للصلاة والذكر والتسبيح ).
ثم ذكر صلى الله عليه وسلمفي ذلك مثالاً بديعاًلأصحابه فقال: ( إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فقام الناسيشتدون خلفها وهي تشتدّ هاربة والرجل يصيح: خلوا إلي ناقتي..، حتى إذا تفرقوا عنهعمد إلى شيء من خشاش الأرض ثم جعله في ثوبه ورفعه إليها ودعاها فلم يزل بها حتىجاءته ).
ويروي معاوية بن الحكمقال: لما قدمت على رسولاللهمحمد صلى الله عليه وسلم علمت أموراً من أمور الإسلام فكان فيما علمت أن قال: لي إذا عطست فاحمد الله ، وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل: يرحمك الله، قال: فبينما أنا قائم مع رسولاللهمحمد في الصلاة إذ عطس رجل فحمد الله، فقلت: يرحمك الله، رافعاً بها صوتي فرمانيالناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بأعين شزر؟! قال: فسبحوا، فلما قضى رسول اللهمحمد الصلاة قال: من المتكلم؟! قيل: هذا الأعرابي، قال: فدعاني رسول اللهمحمد فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه،فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء منكلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن - أو كما قال رسول اللهمحمد - قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاًيأتون الكهان؟ قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ قال: ذاك شيء يجدونه فيصدورهم فلا يصدنهم، قلت: ومنا رجال يخطّون؟ قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافقخطه فذاك، قلت: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية فاطلعت ذات يومفإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون لكني صككتهاصكة فأتيت رسول اللهمحمد فعظّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة " مسلم
و قد لا يمدح للإنسان في مواقف معينة أن يستخدم الرفق والحلم بل لابد من الشدة والقوة , ولكن شدة من غير جهل , ولا أذى , وقوة من غير تعدِّ، والحكيم يعرف موضعهذا وموضع هذا..