للقيد معان تترك في النفس شعورا بضعف القدرة , والعجز عن تحقيق الاختيار ,وله آثار تخترق عظم المعصم , وتلتف حول جيد النفس لتخنق ما بها من معنى للحرية , والمعنى الأوحد الذي يكسر قوى النفس ويحني قوامها ويؤلم مبانيها هو معنى الرق , والقيد قرين الرق , وكلاهما يمنعان الانطلاق ..
وكل دعوة , وكل فكرة - تصحيحية نابغة - , لابد أن تجعل التحرر من القيد شعاراً لها , وتجعل البعد عن الرق هدفاً من أهدافها , والمصلحون دوما هم محررو النفوس , وكاسرو قيد الشعوب , وهم أعداء الرق والمجاهدون ضد العبودية للمادة والناس والأهواء .
والنبوة بشارات بتحرير الإنسانية من عبودية المادة إلى حرية عبادة الإله الأعظم لا إله إلا هو , وجاء خاتمهم ليبتعث أصحابة يخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد . وجاء الإسلام بتحرير النفوس والقلوب والأجساد .
والحضارات أبدا لا تصنع بسواعد العبيد ولا بقيودهم , مهما بنو من حجارة أو شقوا من قنوات , إنما تبني بمعنى غالب للحرية , تنطلق فيه طاقات الإنسان , وتطلق العنان لطموحه وإنجازاته , وتفتح السبيل إلى آماله وأمنياته , وتدعه يستنشق ملء صدره من عبق التحرر الذي لا قيد فيه .
إن المتأمل في معنى الحضارة الإنسانية ليجدها تنطلق من كون الذين بنوها أحراراً , قد تحررت أهدافهم فصارت لإصلاح البشرية , وتحررت انتماءاتهم فصارت نحو الحق والعدل والإيمان , وتحررت أعمالهم فصارت حول إصلاح النفس والقلب , وجعلوا لكل ذلك إطارا من منهاج سماوي علوي حكيم يتقون به الذلة والنقص , يهدي إلى الرشد و السواء .
وإلاسلام أدرك ذلك كله , كما أدرك أن معان دخيلة غير سليمة النية قد اختلطت بمعنى الحرية , فلوثت معناها , وغبّشت صورتها , فصيرتها قبيحة مزرية , فالتف مراءون حولها , فصاروا لها دعاة وما هم للحرية من دعاة !
من أجل ذلك قوم الإسلام الاعوجاج في المفاهيم , وبصر الرؤى في السبل , وعلًم الناس كيف يبنون الحضارات , وعلم أن الحرية حرية القلب , وجعل الإيمان خطوة لتحرر القلب وحدا فاصلا بين الرق والحرية .
والتعاسة في الإسلام لها وجه آخر غير الذي تعنيه للناس إنه وجه الاسترقاق للمادة , وفي الحديث : " تعس عبد الدينار " و" تعس عبد الدرهم " .. وهم تعساء دوما لأنهم إنما قيدهم ذلك عن السعادة .
والقرآن بينما يثبت معجزة حادثة الإسراء والمعراج , نراه ينعت النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بالعبودية لربه : " سبحان الذي أسرى بعبده " , بينما يثبت تحرره في ليلة الإسراء من كل قيد في الكون ومن كل قوانين المادة والأحياء , لكأنما يريد أن يعلمنا أن كمال عبودية الله هي كمال التحرر الإنساني المأمول من ربقة عبودية غير الله والسير على خطى ذاك العبد الأكرم والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ..
وكثير من الذين كتبوا عن الحضارات أو أرًخوا لها , أو اهتموا بها , حادوا عن المعني الأروع للحضارة الإنسانية , وانبهروا بحجارة ضخمة أو تماثيل متقنة أو قبور مزينة أو ملاعب واسعة أو منارات شاهقة أو آلات مبتكرة , ونسوا أو أغفلوا أن إصلاح الإنسان هو هدف أي حضارة صالحة , وأن الحقبة الزمنية التي يُهمل فيها إصلاح الإنسان , لا يمكن أن تسمى حضارة ..
لقد وصل مفهوم الحضارة عند بعض الناس أنها ( آلة وبناء ) ! , حتى دمر هذا المفهوم شتى الآثار الإنسانية , وجعلها تهمل ذاك الكائن المكرم المختار , وتتركه في جهالة بلا علم , وغواية بلا إيمان , وانحراف بلا هداية , وتشتت بلا استقامة , لا ترجو منه إلا أن يكون آلة لصنع آلة , أو آلة لصنع بناء !! ولربما يوما ينهدم البناء , أو ينعكس عمل الآلة , فلا يبقى لذاك الإنسان خبر يذكر , ولا يبقى من تلك الحضارة سوى البكاء على الأطلال !
فلا غرو إذن أن أفخر - أمام كل هذه المادية الطاغية والحضارة المزعومة - بمنهاج يبني الإنسان , ويحرر قلبه , من رق العبودية والاستذلال للمال , أو للآلة , أو للإنسان , وأن أنظر من علٍ لأولئك الذين مسخوا صورة الإنسانية بمفهوم حرية زائف , فجعلوها حرية البغاء , أو حرية الإيذاء , أو حرية الظلم , أو حرية الانتقام , أو حرية السيادة والاستعلاء ..
أوالذين جعلوا الحضارة حرية استذلال الشعوب , والسخرية من المقدسات , وسكب الدم , وحرق الأجساد , وقتل الأطفال , وهتك الأعراض , فلبئس حضارة رفعت الأبنية شاهقة , واتقنت الآلة ماحقة , ومسخت الإنسان !
لكن الأمل لايزال قائما لعودة حضارة أمتنا الغائبة , إذ هي تملك كل المقومات , تملك معنى الحرية الأمثل , ومعنى الإصلاح الأرجى , ومعنى الخلافة الموعود , ويوم يتحرر أبناؤنا من قيد ما يأسرهم , وينطلقون من رق ما يثقلهم , سيتنفسون الأمل , ويضعون اللبنة الأولى في صرح العلاء ..