هذا ماأسميه الحيوية النفسية , تلك التي تقضي على السلبية , وتمنع البخل بالعطاء , وتنادي الروح دوما إلى المعالي .
إنها تستطيع أن تكسر القيود , وتبتكر من كل موقف مبادرة جديدة , وتستخرج من كل فرصة نافذة فوز , وسبيل ارتقاء .
إن المرء قد تمر به ساعات يتعجب ممن تستهويهم الراحة , ويتلذذون بالدعة والكسل , ويحرصون على ملء بطونهم أضعاف ما يحرصون على غذاء أرواحهم وتزكية نفوسهم وتعليم عقولهم , ويزيد المرء عجبا أن يرى هذا النوع من الشخصيات موجود بين صفوف الدعاة إلى الله وصفوف المربين لأجيالنا والمعلمين لأمتنا ..
إن مرضا خبيثا آخر قد تسلل إلينا , لا نستطيع أن نتداوى منه ولا نستطيع أن ننفضه عنا , إنه مرض الدعة والكسل ومرض التخمة والترفه , ومرض الخمول والبطء والكمون , وهو مرض فتاك , مهلك للطموح , محبط للعزائم .
ففاقد الحيوية أشبه بالأشل , لأنها تلقي بظلالها على حياته كلها , فتراه يكسل عن العبادة والدعاء وربما الذكر أيضا , كما يخمل عن السعي وراء خدمة المحتاج والبذل للمعوزين , ويتكاسل أمام الفرص اللامعة في طريقة , فتفوته الفرصة تلو الفرصة في مصلحة نفسه وأمته ..
والحق أن منبع تولد تلك الحيوية النفسية هو اقتناع عقلي وتشرب نفسي مع بعض الطبائع السلوكية الأصلية , تجعله لا يكتفي بفعل المطلوب منه بل يتجاوز ذلك إلى المبادرة في المزيد منه أو البحث عنه، ويزيد على مجرد الأداء الإتقان فيه، بل يضيف إلى العمل المتقن روحاً وحيوية تعطي للعمل تأثيره وفعاليته، دون أن يخالطه جفاف أو جفاء أو تبرم أو استثقال .
وتلك الحيوية التي أتحدث عنها وأدعو القارئ ليبحث عنها ويتقلد بها هي سمة مهمة من سمات المؤمنين الإيجابيين المؤثرين , فهم رجال فكرة وأصحاب رسالة وأمانة , والله سبحانه قد خاطب نبيه بذلك في بدايات خطابه له فقال سبحانه " ياأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر" أي : شمّر عن ساعد العزم وأنذر الناس و قم قيام عزم وتصميم و قم فاشتغل بالإنذار وإن آذاك الفجار, كما قال المفسرون ..
إنها مقاومة تغيرية نحو الأفضل تستثمر القليل فتنميه ، وتحول المسار وتقود الركب ، ومن هنا فهي دعوة رفض للاستسلام للواقع وتبرير القعود ..
إن صاحب الحيوية النفسية لا ينضوي وينخذل تحت وطأة الظروف والأحوال المحيطة به , ولكنه دوما يبحث في جوف الضيق عن سعة وفي داخل الإنقباض عن انبساط , ويبحث في الظلام عن ضوء ولو كان ضوءا خافتا يبتدىء به الطريق ..
والإسلام يربي أبناءه على تحمل المسئولية , سواء كانت ذاتية عن نفسه وأفعاله ومآله أو كانت مسئولية عامة عمن حوله , فهو لا يرضى بالاتكال ولا الانطواء ولا الأنانية وحب الذات , يقول في الظلال : " إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا ما لم تتحول إلى حركة واقعية، وللنية الطيبة مكانها، ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء، إنما هي تحسب مع الأمل، فتحدد قيمة العمل " .
ويقول في أضواء البيان معلقا على سورة العصر:" فهذه السورة فيها دفع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح، ودرجات الجنة رفيعة، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد، فإن أمامه مجال للكسب والربح نسأل الله التوفيق والفرح وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزيناً فإن كان مسيئاً فعلى إساءته وإن كان محسناً فعلى تقصيره" .
ويقول في مدارج السالكين : " ومن ترك العمل أو قصر فيه فإنه إلى الوراء يتراجع فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام ، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طئ إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر" وقال صلى الله عليه وسلم :( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم .