الظلام يلفهم , تنقطع الكهرباء , أعمدة النور تطفأ , مصابيح البيوت , آلات المصانع , المخابز تغلق أبوابها أمام الجوعى والمتهالكين , مضخات الصرف الصحي تتوقف , شركات تنقية المياة , أجهزة المستشفيات , آلات التنفس الصناعي , ضوء غرف العمليات يخفت ويوشك على الانقطاع ..
أصوات الطائرات المجرمة يقترب شيئا فشيئا , يقصفنا بكل كراهية وحقد , تتهدم بيوت الجيران والجيران , حان الدور على بيتنا ليتهدم بفعل حقد يهود !!
الصغار يتشبثون بثياب أمهم المتهالكة وآخرون يبكون بجانب جثة أمهم الشهيدة وصراخهم يعلوالآفاق , ونحيب الجميع قد غطى على صوت الطائرات الهادر .
بح صوت البكاء وعمت رائحة الموت المكان من كل جانب , وأنين خافت يأتي من بعيد من تحت الركام القريب , ربما تكون استغاثة قريب آخر سقط عليه هدم البيت المقذوف ..
إن شعورا يصعب على الوصف ذاك الذي يجده المرء عندما يتصور حال بيوت أهلنا في غزة , تلك البيوت التي علمت العالم أن المبادىء لا تتجزأ والحياة لا تنال إلا كريمة - في مبدأ الشرفاء - ؟!
كيف أصف بيتا فقد شهداء ودًعتهم العيون بالبكاء والدماء , وابتعث جرحى قد فقدوا أعضاءهم ليعيشوا بقية عمرهم عاجزين , وارتهن أسراء بين قضبان عدوه يذيقونهم ألوان الألم , ويوغل فيهم أثر القيد , ثم جفت ينابيع ماله فلم يعد يجد فتات الخبز إلا بالوقوف على طوابير وكالات الإغاثة , وكسر طموح شبابه فلم يعودوا يستطيعوا مجرد الأمل في غد جديد .
كتمت صرخة الألم على شفاه الأم , ووجمت صورة الذهول على ملامح الطفل الصغير ..
إن الحياة في تلك البيوت لتستحيل إلى شىء يصعب وصفه لهؤلاء الآخرين المتنعمين المترهفين على جانب آخر , حيث لا تقصفهم طائرات الغدر ولا يصيبهم رصاص الغل ولا تنقطع عنهم الكهرباء لحظة من نهار , كيف سيستشعرون إذن بصرخات تلك الأم التي ترى وليدها يلفظ أنفاسه الأخيرة , وأخرى تراه يئن من الجوع ولا تستطيع أن تطعمه شيئا , أو بآلام ذلك الأب الذي توقفت آلة التنفس الصناعي لابنه المريض , يحاول جاهدا أن يحركها بيده , ماذا يفعل عندما ينهكه الجهد أويوشي به الرهق ؟
كل يوم تُطبٍق فيه المحنة شيئا على هؤلاء بيوتنا في غزة أتذكر كم امتحن الكرام السابقين . كما أتذكر أن المحنة رحم المنحة , وبرغم المرارة التي أجدها في حلقي , أجدني مفعما بالاستبشار , وأذكر صورة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يربط الحجر على بطنه , وقد أحاطه أبناء يهود والقبائل من حولهم , وهو يضرب الصخرة القاسية فتضىء فيبشرهم بفتح البلاد وسعة الرزق ورحيل ساعات الألم ...
إن المحنة دوما هي رحم التربية الناجحة , ومنطلق ولادة الانتصار , وإن آتون الآلام لتنصهر به الصفات فيتميز طيبها من خبيثها , فتنقى كما ينقى الذهب الإبريز , فلا يبقى ثَم في الأطفال بعد المحنة إلا صفات الرجولة والعزم ولا يبقى في النساء إلا صفات الفضيلة والصبر والقناعة ولا يبقى في الرجال إلا الكرامة والاستعلاء فوق الأزمات ..
والمربون الذين يتصورون انتاج جيل قائد من الأبناء بدون أن تدعكهم التجارب وتعتصرهم المحن وتمر بهم الابتلاءات , هم مخطئون ولاشك , إذ إنه قانون رباني خالد , ذاك الذي عقد الاختبار والابتلاء في ناصية الفوز والنصر والنجاح , " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم , مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله , ألا إن نصر الله قريب "
إن أظافر المحنة الجارحة لتفتل حبلا وثيقا يربط المؤمن بالله , حين يرى ضعفه وقلة حيلته , ويدرك فقره وخور قوته , فيلجأ إلى القوى العزيز ويقر له بكل حول وقوة وبكل قدرة وعزة وبكل قيومية وشهادة , فيسلم شأنه لربه , وتصبح حياته سابحة في يقين راسخ وتوكل مخلص ..تنتظر لحظة الانتصار
لقد رقيتم مرتقى علويا يا أبناء غزة , وتركتمونا ههنا , وحدنا , نعاني القيد وأسر الزخارف والشهوات , ونلملم في كل يوم بقايا الانكسار مصحوبة بثمن بخس مهين ..
لكم نشعر بمرارة في حلوقنا وحسرة في مشاعرنا أنا لم نستطع أن نقدم سوى النذرالنادر القليل , ولم نستطع أن نمسح دمعة طفل لفراق أبيه , ولم نستطع أن نعالج جرحا نازفا في صدر أبيّ صامد , ولم نستطع تقديم شربة ماء لحلق قد أكله الجفاف , ولم نستطع حتى أن نشارك في جنازة الشهداء .