والمرء في ساعاته التي تمر عليه , أسير ذاك الغليان , ووقيع تلك التقلبات , فهو يسير خلف قلبه , وقلبه يقوده أينما حل .
وقلب المرء ربما كان حكيما عاقلا نبيها فيستقر به إلى الهدى ويسير به نحو النور , أو يكون ماجنا غافلا غبيا فيهوى به في غمار التيه الدنيوي المظلم , فتمر به ساعات عمره من سقطة إلى أخرى ومن عثرة إلى غيرها ..
وقد أمر الله سبحانه بتطهير القلب وتزكيته وتخليصه من شوائبه وأمراضه وفي قوله تعالى " وثيابك فطهر" : قال جمهور المفسرين أن المراد بالثياب هنا هو القلب , بل قال سبحانه عن الفاسدين والمبعدين عن رحمته وفضله " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم " , فجعل عدم تطهير تلك القلوب من أهم الأسباب الموجبة للعذاب , قال صلى الله عليه وسلم "ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ " رواه البخاري ومسلم
وقال الله سبحانه : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " فقدم التزكية على التعليم من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إليها , فالأصل هو: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد , وقد علمنا الشرع الحنيف أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خرج من قلب سليم فقال سبحانه " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وخلص عمله له وهو السالم من كل شبهة وشهوة تخالف أمر الله وخبره سبحانه وتعالى , ومن ظن أن أشد ابتلاء العبد هو ابتلاؤه في جسده فقد أخطأ إنما هو ابتلاء القلوب قال الله سبحانه " وليبتلي الله مافي صدوركم وليمحص ما في قلوبكم وقال سبحانه " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى "
وتفاعلات القلب دائرة في كل وقت وحين عبر صراعات تحدث في داخله بين مراداته الصالحة وطغيان أمراضه الخبيثه , فأيهما ينتصر , ولذلك فإنك قد تجد بعض الناس قد تحسن له صفة وتسوء له أخرى , بل أنه في بعض الأحيان يظهر بصورة الحليم الكريم وفي بعضها الآخر يبدو في صورة العتل الغليظ الصاخب الغضوب البخيل , وماذلك إلا لغلبة مرض القلب في بعض الأحيان على مراده الصالح , ولذلك فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نهتم بتقويم ذلك الصراع وتلك التفاعلات القلبية فقال صلى الله عليه وسلم : ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب " , وقال " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ناداه الله على رؤس الخلائق يزوجه من الحور كيف يشاء " , وعلّم أن " من ترك المراء وهو محق فله بيت في ربض الجنة " ... إلى غير ذلك .
وكل هذا التفاعلات قد نكون غائبين عنها ولا ندري ما يحدث فيها , ولكن كل امرىء أدرى بقلبه ويستطيع أن يستقصي عن حاله ويستعلم عن أخباره .
وأفضل ما يحتاجه القلب ابتداء ليقوى عوده ويشتد , هو التعلق بربه وحبه , والشوق له سبحانه , فتهون أمامه الدنيا والأشياء , ويرغب دوما أن يكون في مرضاة حبيبه , ويسارع في طاعاته , فتراه يشعر بلذة عبادته , والراحة في لقائه والارتباط به سبحانه , فيفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم لبلال يأمره بالأذان : " أرحنا بها يا بلال " , ويستشعر معنى قوله صلى الله عليه وسلم " ذاق معنى الإيمان من رضي بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا " .
كذلك يتقوى القلب بتدريب الجوارح خطوة خطوة على ما يحب وأن تستشعر بالطاعة , فيدرب اللسان على دوام ذكر الله ويجعله يتذوق حلاوة ذاك الذكر لربه , ويدرب اليد على إخراج الصدقة وكأنها تعلقت بالصدقة وأحبتها وارتبطت بها , ويدرب القدم أن تشتاق إلى مواطن الخير والمعروف وكل جوارحه كذلك .