لست أكتب كلماتي من بقعة الشهداء ولكنني بقلبي في تلك المحرقة , لست بجسدي تحت قصف الطائرات , لكنني بروحي وكأنني ألملم بقايا الأجساد الطاهرة أضمها إلى صدري في حب بالغ , وأسقي الأشلاء العطشى آخر قطرة ماء.
فكل مكان صار في الأعين الآن غزة , كل حريق صار حريقها , وكل يتيم صار يتيمها , وكل شهيد صار شهيدها , وكل ثكلى صارت ثكلاها , وكل صرخة صارت لها , وكل دمعة أو رعدة أو حسرة صارت من أجلها وأمثالها من بلاد أمتنا الجريحة النازفة .
الطرق مسدودة بلون الدم , بلون الألم , والبيوت تهدمت , البيوت تعلمت أن القصف لايعني الانهيار , لقد توحدت معا لتصير بناء جديدا في يوم قريب .
الطرق يخيم عليها الصمت , صمت الفجيعة , إنه ذاك الصمت الذي يسبق لحظة الثأر لكل حبيب وقريب , إن الطرقات في غزة تعلمت , أن الثأر لابد آت , لابد يشفى حرقة فراق القلوب الكريمة صباح الوجوه , الطرق الآن توحدت فصارت طريقا واحدا يؤدي إلى النصر , نصر على أية حال , شهادة أو انتصار ..
ألف شهيد وجريح , تختلط دماؤهم بدماء بعض , وتختلط معهم قطرات الدمع المنهمر من قلوب أمتنا الجريحة بجراح الغدر , لا يستطيع أحد اليوم أن يميز بين الأشلاء المقطوعة , لقد اختلطت ببعضها , فعين ساجد راكع وشفة ناصح عامل , كف باذل معطاء وقدم مسارع في الخيرات , قلب مخلص صادق وكبد وفي أمين , إنهم جميعا الآن يتوحدون في المعنى وتتوحد عليهم دمعات البكاء .
لا حرقة قلب نشتكيها , ولا صرخة ألم نتبادلها ههنا , فاليوم يوم الشهداء , اليوم عرس الشهداء , إنها سعادة علوية لهؤلاء الصاعدين نحو السماء , يرتقون مبادئهم ويلتحفون ثوب العزة والفخار , لا ألم قد لا قوة إلا " كقرصة " – كما ورد في الحديث - , ولا ندم خلفوه , فلو دعي أحدهم ليعود إلى الدنيا ولو للحظة لن يجيب – كما في الحديث , السندس الأخضر لباسهم , والحور العين زوجاتهم , وحوصل الطير الأخضر مبيتهم ومأواهم كل ليلة , فأي نصر لاقاه هؤلاء بعد تعب السنين وجهد الليل والنهار ؟ أي قرة عين قد أعدت لهم يتضاءل معها كل ألم وكل نصب وكل ثبات ؟!
لوحة حية متفردة ترسمها الأمهات ههنا , لوحة نازفة من قلب الأم الصارخ بالألم , الأمهات يلملمن بقايا أطفالهن وأبناءهن من جوار الأرصفة وجدران البيوت , ويُخرجن ما التصق منها بحديد السيارات المحترقة , وينتقين ما تطاير منها في دكاكين الأطعمة وعلى عربات بائعي الفاكهة والخضروات , لكأنما الطعام سيختلط ببقايا رشاشات الدم المتدفق من قلب الصغار والراحلين .
إني رأيت في وجوه أمهات الشهداء نظرتين : نظرة رضا وتسليم تدعوهن لتحريك الشفاه زغردة بسمات , ونظرة تحمل شحنة غضب عسير , لكأنه سيتفجر حتما كقنبلة موقوتة , كحزام ناسف حول جسد فقد ضلوعه ..وجف دموعه .. في ذاك اليوم الدامي
حيث يتربى الصغار في بيوت الصامدين , ويسيرون في طرقات الثابتين , ويلعبون ألعابهم في الشوارع التي سميت باسم الشهداء وتناثرت فيها دماء الشهداء .