
كما النار لا تزيد الذهب إلا نقاء وصفاء ولمعانا، فكذلك المحن العظيمة التي يبتلى به المؤمنون في بعض الأحيان لا تزيدهم إلا إيمانا وصبرا على تحمل الشدائد والأهوال والمصائب.
وهؤلاء إخواننا في غزة يتحملون النار تنهال عليهم صباح مساء منذ بضعة أيام ولم يزدهم هذا الوضع إلا صمودا وصبرا على تحمل الآلة الصهيونية الهمجية والإجرامية، يستوي في هذا الصمود الكبار والصغار، بل تجد الأطفال والشباب أحيانا أكثر صمودا وتآزرا وتآلفا على استيعاب الضربات وامتصاصها بغير قليل من القوة والتضحية والعزة. فكيف يتأتى لهذه النماذج الإنسانية الحية والواقعية أن تتوفر على مثل كل هذا الصمود، أو بعبارة أخرى كيف يمكن تربية النشء والأطفال على الصمود لمواجهة مصاعب الحياة ونوائبها..
ولعل خير قصص الصمود هي تلك التي رسمها أفضل الناس وخير الأنام وهو يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام في بيئة كلها كفر وشرك وصد عن سبيل الله، فلاقى صلى الله عليه وسلم ما لاقاه من مصاعب ومخاطر وواجه الشتائم والسخرية والعنف والإيذاء الجسدي والتهديد بالقتل والتصفية من طرف صناديد قريش بكثير من الصمود والثبات على الحق، ليس فقط لأنه رسول الله بل لأنه فداه نفسي وروحي كان متصلا بالله تعالى ومتوفرا على دعائم الإيمان في قلبه وحققها في حياته العملية اليومية، فكان الصمود ثمرة لذلك الإيمان المتوهج ونتيجة لتلك العبودية المطلقة لرب العزة والجلال.
وأكبر صور الصمود التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التي عاشها محمد وأصحابه في شِعب أبي طالب ويقال له شعب بني هاشم. حيث حاصر كبار قريش وساستها الأقوياء المتكبرون عن سماع الحق محمدا رسول الله وثلة من بني هاشم وبني عبد المطلب لأنهم فشلوا في ردعه عن دعوته التي يبشر بها رغم ما استعملوه من تهديدات وإغراءات نفسية ومالية واجتماعية.
دام زهاء ثلاث سنوات أن أكل الرسول العظيم وصحبه من أوراق الشجر بسبب الجوع ونفاد الزاد والمال. لكن بفضل صمود هذه الثلة من الرجال خرجوا مرفوعي الرأس من الحصار الغاشم دون أن يتنازلوا قيد أنملة عن مبادئهم التي بسببها حوصروا وجُوعوا وعذبوا..
ولعل هذا الحصار الذي ضربته قريش على الرسول الكريم يحيل الأذهان والألباب إلى حصار الصهاينة المتغطرسين في هذا الزمن العربي المتردي للمؤمنين من أبناء فلسطين في قطاع غزة خاصة بعد أن فشلوا في تنحية قادتها وزعمائها وتركيع أبنائها، فكان الحصار العسكري والاقتصادي الوسيلة المتاحة لهم.
والقصة الثانية من صمود خير الخلق كانت متمثلة في ما جرى له في الطائف من محنة عظيمة وصد كبير لدعوته، لكنه لم يفشل أبدا كما ادعى بعض الدعاة الجدد ـ خطأ ـ ، بل إنه قام بما كان عليه أن يقوم به، ونال شرف ذلك حتى لو ينل نتائج عمله حينها بشكل فوري لكنه حاز على الثمار لاحقا وبشكل أكثر عمقا وكثافة.
وصمود الرسول الحبيب في الطائف يمكن إيجازه في كونه صلى الله عليه وسلم فكر بنقل دعوته من مكة، حيث وجد الصد والنفور إلى منطقة الطائف حيث كان يأوي إليها سادة قريش وأهلها في الصيف وفيها يمتلكون الأراضي والمنازل.
غير أنه صلى الله عليه سلم لم يجد الطائف خيرا من أهل مكة، إذ رده كبار القوم وتبعه عبيدهم يشتمونه ويسبونه بأسوء الصفات والنعوت ورموه بالحجارة إلى أن أدموا قدميه الشريفتين، فتألم الرسول الكريم وأصابه حزن وهم وتعب ونصب، ورغم أن الله تعالى بعث له ملك الجبال يستأذنه أن يطبق الأخشبين على القوم لكنه رفض بأدب وقال قولته المشهورة "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا " رواه البخاري .
وبعد أن آوى إلى بستان في الطريق ذكرت بعض الروايات التي حسنها بعض العلماء أن قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل علي غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك"