
إذا كنت طبيبا فمن المؤكد أنك تحمل على عاتقك أمانة أكبر وأنت تنظر إلى جرحى مزقت أجسادهم أحقاد بني صهيون ، وتتمنى أن تغمض عينك لتجد الحدود والسدود قد زالت لتلتحم بأهل الرباط وتنال شرف تضميد جراحهم ، لعل هذا ما دفع عددا من الأطباء إلى مواصلة الاعتصام أمام معبر رفح الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر مؤكدين أنهم لن يغادروا حتى يسمح لهم بالمرور ؛ استمر الاعتصام 3 أيام حتى سمحت السلطات المصرية في السابع من يناير بدخول أول وفد من الأطباء العرب للمساهمة في تخفيف آلام الهولوكست الصهيوني الذي حل بغزة جراء القصف الذي بدأ في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي واستمر 22 يوما متواصلا .
بداية يؤكد الدكتور باسم الكسواني أمين سر نقابة أطباء الأردن ورئيس لجنة المقاومة والتطبيع في اتحاد الأطباء العرب ؛ أنهم شاهدوا في هذه المجزرة مالم يشاهدوه طيلة حياتهم ، وقال : " نعجز عن وصف ما رأيناه فحالات البتر والحرق حتى التفحم هي التي تتحدث !!"
ويؤكد الكسواني استعمال القوات الصهيونية للفسفور الأبيض الذي ينفرد بخاصية اشتعاله من جديد عندما يرفع من التراب ويلامس أوكسوجين الهواء الجوي ، ولم يكتف الحقد الصهيوني بهذا ، فهناك أسلحة أخرى استخدمت في هذه الحرب لم يستطع الأطباء التعرف عليها بعد .
صورة أخرى لآلة الحرب الصهيونية التقطها الكستواني من ذاكرته قائلا : " إحدى سيارات الإسعاف كانت تحمل جرحى من ذوي الحالات الحرجة وقد زودناه بجهاز تنفس ، فقام أحد الجنود بإيقاف سيارة الإسعاف لمدة 45 دقيقة دون سبب !!، وفجأه أطلق طلقة في الهواء ليرهب السائق عله يتراجع ، وأخيرا سمح له بالمرور على أن يسير بسرعة 10 كيلو مترات !!
وكشف كستواني النقاب عن تباطؤ منظمة الصليب الأحمر و ضعف دورها بشكل لم يره في أي بلد من قبل ؛وأضاف ليس فقط الصليب الأحمر بل جميع المنتظمات الدولية حتى الأونوروا ، مطالبا لهم بدور أكثر فعالية فليس من المعقول أن تضرب مقرات الأونوروا ويصاب بعض أفرادها في حين يتوقف دورها عند التنديد !!.
كما ناشد الحكام العرب بالحفاظ على غزة " التي توزع الكرامة على الجميع " مؤكدا أن دور الشعوب وحده لا يكفي فهناك مهام لا تطيقها الشعوب وعلى الحكومات أن تتحمل مسؤولياتها ؛ ومؤكدا كذلك على حتمية المقاطعة الشعبية والدبلوماسية لهذا الكيان الغاصب ومشيدا بدور شافيز الذي طرد السفير الصهيوني ومستنكرا تأخر هذه الخطوة من جانب الدول الإسلامية .
وفي السياق ذاته أكد الدكتور محمد الرفاعي أن محارق غزة أصبحت غنية عن التعريف ، فللأطفال محرقة وللنساء محرقة وللشيوخ محرقة !! ، حتى اختلطت الأشلاء وبات من الصعوبة معرفة أصحابها !! فالصورة ترسم فضيحة دولية بكل المقاييس ، وتعيد إلى الأذهان مجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين .
وأكد كذلك أن قطاع غزة لن يهزم ولن ينكسر ، فهم يقتاتون على البقوليات ( خاصة الحمص ) حيث الخضروات واللحوم شبه معدومة ، ولا خبز ولا أي طعام آخر ، إلا أنهم يعيشون قمة الصمود والسعادة والإيمان بالله ، فقد ذهبنا لنثبتهم فثبتونا !!.
ويختصر الرفاعي حكاية غزة في قصة عايشها قائلا :" شاب ليس في جسده إلا جرح صغير إلا أن جميع أحشائه الداخلية ممزقة ؛ الرئة .. الأمعاء .. الكبد .. كل شيء ، مما يدل على استخدام أسلحة كيميائية تدخل إلى الجسد ولا تخرج منه وتتحلل بداخله محدثة هذا النزيف وهذا الدمار ، يتابع الرفاعي : وما هي إلا لحظات حتى توفي الشاب فشعرنا بالحرج الشديد من والدته التي لم تر في جسده إلا جرحا صغيرا فكيف لم نستطع علاجه ، وعلى استحياء أخبرتها إذ لم يكن من المعقول أن نخفي عنها الخبر ، ففاجأتنا بأن زغردت وحمدت الله قائلة : اليوم عرس ابني ، اليوم عرس الشهادة !! . هذه هي حكاية غزة جرائم حرب ممزوجة بمبشرات النصر" .
وعن المشهد الذي لا ينساه العبسي قال : جاءوا لي بطفل متفحم وقد نهشت الكلاب بعض أجزاء من جسده ، كما لن ينسى العبسي زميله الطبيب الذي فوجيء بجميع أفراد أسرته يلقى بهم على أسرة المستشفى وبين طرقاتها وهم جرحى جراء قصف منزله ، فاسرع محاولا إنقاذ أخيه إلا أنه لفظ أنفاسه بين يديه .
ويؤكد العبسي كسائر زملائه أن على صمود غزة قائلا : لن يقهر شعب مرابط ، فقد دخلنا وفي أنفسنا شيء من الخوف وهم من ثبتونا ودفعونا للأمام ، ولذلك يطالب العبسي بضرورة نصرة أهلنا في غزة مؤكدا أن المواد الغذائية والدوائية تنتهي صلاحيتها وهي ما تزال تنتظر الإذن بالمرور عبر رفح أو المعابر الصهيونية !!
وبدوره يؤكد الدكتور أحمد عبد العزيز أستاذ جراحة العظام أن ما يقوم به الأطباء ليس أكثر من الواجب مؤكدا أن الإصابات التي رآها " منتهى العجب والوحشية " ، مضيفا : لقد فقدنا التمييز بين أصوات القذائف ولم نستطع تحديد أماكنها فهي متزامنة ومستمرة ليل نهار فهذه قذيفة أباتشي والأخرى من الزنانة والثالثة من البحر !!
وعن سبب تعجب عبد العزيز من الجروح يقول : " أجساد الجرحى كانت كالإسفنجة يرشح منها الدم ، ورغم وفرة أكياس الدم وتزويدنا المستمر للجريح به إلا أن جسده يظل يرشح حتى يرتقي شهيدا ، ويؤكد عبد العزيز أن هذا يدل على استخدام أسلحة كيميائية لها القدرة على الذوبان في الجسد وتسميمه ، ومما يؤكد ذلك أيضا عدم وجود منافذ لخروج القذائف وكذلك عدم وجود أي آثار لها في الأشعات الضوئية التي يتم عملها على كامل الجسد مما يؤكد أنها قد ذابت في داخله " ويضيف " إن مخلفات هذه القذائف تسبب فشل في الكلى والكبد وتلف لعضلة القلب "
ولم يعجب عبد العزيز من الإصابات ومن كميات القذائف فقط ، فقد عجب أيضا من أخلاق هذا الشعب المرابط ، فمن يحتاج إلى بتر يعد نفسه من أهل العافية ؛ فهناك من تفحم نصفه السفلي تماما وامتلأ العلوي بالشظايا ، ومن إصابته دون التبر يستحي أن يحجز مقعدا في المستشفى ويشغل الأطباء عن آداء مهامهم فغيره أولى بالعلاج !!
وعلى عكس ما رواه الجميع من مشاهد الآلم آثر الدكتور حسام البصراطي ـ طبيب أنف وأذن ـ أن يصف هذه الأحداث بأنها عيد !! قائلا : " أليس عيدا أن يصدق الله وعده ويعز جنده وينصر عباده !!" مؤكدا أن عباده هؤلاء قد صدقوه لما عرفوا طريق الهداية وساروا عليه فكان نصره لهم نتيجة حتمية لمن يسلك هذا الطريق .
والبصراطي لم يستوقفه مشهد الدماء ؛ إنما استوقفه مشهد شعب لا يعرف الطبقية ، فمن عامل النظافة إلى مدير المستشفى ، ومن مستشفى كمال عدوان في رفح إلى مستشفى الشفاء في قلب غزة ، نفس المشهد وكأنهم نفس الأشخاص ، الجميع يعمل تحت راية واحدة ، فمدير المستشفى يتجول ليل نهار بين الممرات يراقب سير العمل ويشارك فيه ، حتى في اللحظات التي يخططفونها لمتابعة الأخبار جميعهم يجلسون متلاصقين ، فقد وسعتهم المقاومة ، وكتبت على جباههم عش عزيزا أو مت وأنت كريم .
وعن الموقف الذي لا ينساه البصراطي يقول : " كنت متعبا واحتجت إلى دواء وذهبت لشرائه من صيدلية مجاورة للمستشفى فوجدت كل شيء معتم نسيت أن الكهرباء ممنوعة هنا ، وبصعوبة استطعت الوصول لرجل يجلس بجوار زوجته وأولاده وقد اتخذ من ظهر بيته صيدلية ، فطلبت الدواء وعلم من لهجتي أني مصري ، فسألني ، فأجبته أني طبيب وجئت لعلاج الجرحى ، فرفض أن يأخذ ثمن الدواء ، ولم أجد سبيلا للإلحاح عليه إلا أن ذكرته بالحصار وبحاجة أولاده ، إلا أنه استمر في رفضه قائلا : الله يرزق الله يفرجها "
أما حاتم المعتصم ، طبيب عيون ، فيرى أن الله قد شرفه بدخول غزة ، كما أنه يشيد بالصلابة النفسية التي يتمتع بها الجميع ، فالأم تحمل شهيدها ، والأخت تحمل جريحها بثبات ورضى بقضاء الله بلا انكسار ولا هزيمة ، فالإنفعال فقط في الدعاء على المحتل
ويؤكد الدكتور إبراهيم الزعفراني أمين عام لجنة الإغاثة والطواريء باتحاد الأطباء العرب ؛ أن وفود الأطباء إلى غزة ستستمر لمدة 6 أشهر على أقل تقدير ، فقبل يومين وصل الوفد الثالث ، وغدا سينطلق الوفد الرابع ، وسيتم تنظيم عودة الوفود وارسالها بما يضمن استمرار العمل بأفضل شكل ممكن .
وقد زف الدكتور الزعفراني البشرى للطبيبات بفتح باب المشاركة بدءا من اليوم .