
كلمة "مخترع" لا تقف عند حدودها اللفظية فهي كلمة يمكنها أن تحدث نهضة ونقلة نوعية في شتى المجالات التكنولوجية، ومن ثم انعكاس ذلك على نهضة الأمة وتقدمها التقني والعمراني.
وحتى نصل إلى تطبيق تلك الكلمة، فإننا نمر عبر مراحل متعددة من التربية على التميز، إلى اكتشاف المتميز، مروراً بتأهيل المتميز ليكون مخترعاً، انتهاءً بميلاد الاختراع، وكل ذلك في ظل بيئة تربوية علمية رصينة.
لننتقل بعد ذلك إلى كلمة أخرى لا تقل في أهميتها عن الأولى ألا وهي "الاختراع"، فكم من الاختراعات ضاعت هباءً منثوراً لأنها لم تولد في بيئة تعرف قيمتها الحقيقية وتسير بها في مسارها الطبيعي ليعود نفعها على تلك البيئة، والمجتمع الذي يضمها.
والمتأمل لواقع العالم الإسلامي الآن يجد أن الكلمتين بحاجة إلى رعاية مكثفة على المستوى الأسري والمجتمعي.
فالمخترع حاله كحال البحث العلمي في العالم الإسلامي، حيث جل اهتمام الأسر منصب على توجيه الأبناء نحو الوظائف المؤمنة بعوائد مالية تحقق الاستقرار، أو التي توفر مكانة مهنية تتحقق معها الوجاهة الاجتماعية، بغض النظر عن التوظيف الأمثل للملكات العلمية للأبناء.
أما على مستوى الأمة فإن غالب المجتمعات الإسلامية لا تتحقق معها المعادلة العلمية المعينة على الإبداع العلمي ومن ثم الاختراع، بل تضع الباحث العلمي في مناخ احتياجي ومعيشى يصرفه عن أولوياته العلمية.
وغالب المؤسسات المعنية بالاختراع في البلدان الإسلامية بشهادة المخترعين لا نجد لها بصمة عملية في تطبيق الاختراعات، وهي مدفوعة بذلك إما بضعف الاعتمادات المالية أو البيروقراطيات الوظيفية التي لا تتناسب مع الايقاعات العلمية، هذا فضلاً عن التقارير الصحفية المشيرة إلى الفساد في بعض قطاعات الاختراعات لصالح بلدان منافسة تقتنص الاختراع بأموال زهيده، إضافة إلى تهافت الشركات الدولية على شراء براءات الاختراع في العالم الاسلامي مدندنة بذلك على وتر احتياج المخترع وتعسر تسويق اختراعه.
لتطور الاختراع وتخرجه للنور، ثم تعيد بيع مخرجاته للبلدان الإسلامية بأغلى الأثمان بعدما تمتلك مدخلاته وتنفق على عملياته.
لتبرز بذلك أزمة المخترع والاختراع والتي يلمسها كل من احتك بأروقة البحث العلمي، وكذلك كل مطلع يعرف أهمية ودور الاختراع في صناعة الأمم وتقدمها تلك الأزمة التي يمكن توصيف أبرز مؤشراتها بالصورة التالية:-
9- سرقة الأبحاث العلمية من قبل الدول الأجنبية؛ وفي هذا الصدد يشير الدكتور هاني الناظر رئيس المركز القومي المصري للبحوث إلى أن مشكلة سرقة الأبحاث من المشاكل الكبرى التي تواجه البحث العلمي والتي كثيراً ما تحدث تحت مظلة التعاون البحثي المشترك مع المراكز الأجنبية.
10- عدم رغبة بعض القوى الدولية في وجود منتجات يكون المسلمون فيها أصحاب الملكيات الفكرية بحيث يتحرروا بها من أسر خطوط الانتاج، وذلك لوأد أية نهضة أو تميز علمي وتقني إسلامي قد يحدث نوع من الحصرية في سوق التنافس الدولي، وفي ضوء ذلك تمارس تلك القوى كل الأساليب المتاحة لديها لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.
ولمحاولة تجاوز تلك الأزمة فإنه يمكن وضع بعض آليات لرعاية المخترع المبدع والاختراع الناتج عن إبداعاته في العالم الإسلامي وفق مجموعة من الأدوار الموزعة بين الأسرة والمجتمع والتي يمكنها أن تأخذ الصورة التالية:-
المخترع هو شخص متميز لديه مؤهلات الابتكار والإبداع، وكلما كان اكتشاف المتميز في سن مبكرة كان توظيف طاقاته وتوجيهها أفضل وأفعل، فالنشء قد يكون متميز ولكنه لا يعلم قدرات نفسه ولا تساعده البيئة المحيطة على بروز تلك القدرات المهارية، وبالتالي فهو يضيع في وسط الزحام، فقد يكون في أسرة ما طفل متميز لكن الأسرة لا تدرك أن ابنها لديه طاقات إبداعية يمكن تطويرها وتنميتها ليصير الإبن مبدعاً نافعاً لأمته. ومن هنا فإن الأسرة تلعب الدور الرئيسي في اكتشاف الطفل المتميز المؤهل لأن يكون مخترعاً يوماً ما.
وحتى تؤدي الأسرة دورها ابتداءً نحو أبنائها لتهيئة المناخ الإبداعي لديهم فإن عليها القيام بدورين أساسيين:
وفي حالة ملاحظة علامات التميز الإبداعي لدى أحد الأبناء فإننا سنكون بصدد طفل مرشح لأن يكون مبدع أو مخترع، وعلى ذلك فلو تم تكثيف رعايته وتوفير البيئة العلمية الإبداعية له بالتواصل مع العلماء والمؤسسات المرتبطة بمجال نبوغ الابن ولو على المستوى الشخصي، مع التشديد على الإنفاق عليه نفقة علمية أسرية مستقلة عن النفقات الأسرية المعتادة، فإن ذلك قد يعزز من فرص نبوغ هذا الإبن وتطوره.
وإذا قدر لهذه الأسرة أن يكون ابنها في مصاف المبتكرين والمخترعين فإن عليها أن تتعامل مع ابنها في كافة مراحل عمره معتبرة نبوغه الإبداعي استثمارً خاصاً لها لا تبخل عليه بكافة احتياجاته العلمية اللازمة لتنمية إبداعاته، وتطوير ابتكاراته.
وهكذا تكون تلك الأسرة قد قطعت شوطاً كبيراً في اكتشاف ورعاية إبنها المرشح لأن يكون مخترعاً مؤثراً باختراعاته في المجتمع.
لتأتي بعد ذلك مرحلة أخرى من مراحل رعاية المخترع وتطوير ملكاته وهي مرحلة مؤسسية قائمة على الدور المجتمعي وهي ذات شقين: شق استكشافي من خلاله يتم اكتشاف المخترعين والمبدعين والمتميزين العلميين داخل المجتمع، وشق آخر عملي وبه يتم خروج الاختراعات إلى دائرة الضوء برعايتها وتطبيقها عملياً وتوفير كافة الاعتمادات المالية والتقنية اللازمة لها.
المجتمع الأهلي يمكنه أن يلعب دوراً ممتداً في اكتشاف المخترعين والمبدعين سواء بإنشاء مؤسسات مستقلة تعمل في مجال المخترعين والمبدعين فقط، أو استحداث خطوط مشاريع في المؤسسات الخيرية القائمة تحقق هذا الهدف الاستكشافي، مع التشديد على أهمية وجود مظلة قومية تجمع مجهودات المؤسسات المحلية وترتقي بالمبدع والمخترع الارتقاء الإبداعي الفعال.
ويمكن للمجتمعات أن تنشئ مؤسسات خيرية داخل المجتمعات المحلية يكون هدفها فقط هو اكتشاف المبدعين والمخترعين داخل المجتمع، حيث تجرى عليهم الاختبارات العلمية الكاشفة لدرجات ابداعاتهم، وهذه المؤسسات يمكنها نشر ثقافة الوعي العلمي بالاختراعات داخل المجتمع وذلك بعمل نماذج لمواد إعلانية دعائية تبثها وتنشرها وسائل الإعلام المتعددة والمتاحة أمامها بحسب إمكاناتها المادية.
الثاني... أن تسعى المؤسسة الأهلية إلى اكتشاف المخترع والمبدع بنفسها وذلك من خلال التجمعات الجماهيرية والاتصال بالأسر داخل الأحياء، ويمكن تفصيل ذلك كالآتي:
1- ترشيحات الأسر
حيث تتدخل المؤسسة الأهلية بطباعة نموذج تقريبي لسمات وعلامات الطفل المبدع، وتطبع النموذج وتوزعه على أهل الحي الذي تعمل فيه، عسى أن يقدر وتعثر المؤسسة على أطفال متميزين لتتولى رعايتهم وتوجيههم.
2- المدارس
المدارس مجتمع المعرفة الأولي، وفيها التجمع الإبداعي الخفي وببحث مؤسسات المخترعين فيها، والتفاعل مع ترشيحات المدرسين، فضلاً عن مزاولة الأنشطة الاستكشافية بداخلها قد تحظى المؤسسة ببعض المبدعين المتميزين.
3- الجامعات
ما حدث مع المدارس يمكن أن ينسحب على الجامعات الواقعة في محيط المؤسسات الأهلية، مع التفرد بالتخصصية في حالة الجامعات وارتفاع السقف الإبداعي فيها.
4- المراكز البحثية
وبالتواصل معها يمكن التوصل لأبرز المبدعين والمبتكرين فيها والمؤهلين لأن يكونوا مخترعين متميزين.
5- الجمعيات العلمية
لا توجد في العالم الإسلامي كأمة مؤسسة إسلامية معنية بالمخترعين واختراعات المسلمين، يتوافر بها حصر شامل لاختراعات عقول المسلمين ووضعها قيد الاختبار والتطبيق العملي.
تلك المؤسسة التي إن وجدت فإنه من الممكن بإذن الله أن تتحقق من خلالها نهضة علمية بناءً على رؤية ابتكارات واختراعات المبدعين والمخترعين المسلمين للنور، وهذه المؤسسة يمكن تلمس بعض ملامحها في العناصر التالية:
10- لعب دور الوسيط والمنسق بين المخترع وجهة التنفيذ الإسلامية والمتمثلة في المصانع والشركات، ويمكن للمؤسسة في هذه الحالة عقد اتفاقات مع رجال الأعمال بحيث تتولى هي تطوير الاختراع، ويتولى رجل الأعمال تدبير النفقات اللازمة لإدخال الاختراع في حيذ التنفيذ أو أن تكون النفقات مشتركة بحسب الإمكان، مع ضمان الحفاظ على حقوق المخترع والمؤسسة.
مجموعة من المقترحات القابلة للتعديل والإضافة ليكون لدينا مظلة إسلامية عامة ترعى المبدعين والمخترعين واخترعاتهم وابتكاراتهم بهدف نهضة الأمة الاسلامية وتمكنها في المجالات الطبية، الصناعية، الزراعية، وكافة الميادين الانتاجية.