من بيتهم خرج الورع !
15 ربيع الثاني 1430
خالد بن صالح الغيص
     ذكر أهل التاريخ أن أخت بشر الحافي جاءت إلى الامام أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا،فتمر بنا مشاعل الطاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟.
فقال أحمد: من أنت؟ عافاك الله تعالى.
فقالت: أخت بشر الحافي.
فبكي أحمد وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لاتغزلي في شعاعها .   (البدايةوالنهاية)
 
     فهذا الإمام أحمد بن حنبل - إمام أهل السنة والجماعة – من فطنته لم يعدم الخير الموجود في قلوب الناس ، ما دام هذا الخير مما يحبه الله ويرضاه ، أمر به الإمام احمد ودعا إليه ، فهذه المرأة سألت عن مسألة دقيقة ، فسألها أولا: من أنت ؟ فلما علم إنها من بيت ورع وزهد  طلب لها الكمال والأفضل وأمرها بما يناسب حالها وورعها .
 
    فليتفطن لهذه المسألة علماء عصرنا ، فنحن نعيش في زمن قل فيه الخير وظهر فيه الشر ، فإذا وجد من مسلم حب لخيرما  فعلينا جميعا – علماء وطلبة علم – أن نشجعه ونأمره به وندعوه إليه ، وان كان مقصراً في أمر آخر من أمور الدين ، فلعل حبه لهذا الخير يكون سبباً لهدايته وتوبته ، وان كان المقام مقام تذكير وتوضيح قمنا بما أوجب الله على عباده من النصح  والتوضيح ، وإلا لم نكن حجر عثرة في طريق نشر الخير .
 
    تناقل الناس في هذه الأيام خبر مقاطعة بضائع من يظنون أنهم كانوا سبباً وعوناً لليهود في حربهم ضد اخوننا في غزة ، قاموا بتلك المقاطعة لظنهم أنهم لا يملكون شيئاً لنجدة أخوانهم في غزة غير سلاح الدعاء والمقاطعة بعد أن خذلهم من بيده زمام الأمور أو باستطاعته أن يفعل شيئاً ، فلحبهم لدينهم ولنصرة إخوانهم قاموا بذلك كل حسب استطاعته نصحاُ لله ورسوله كما قال تعالى في سورة التوبة آية 91 : (( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  )) قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : { وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ } أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله، بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد.
 
{ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } أي: من سبيل يكون عليهم فيه تبعة، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد- أسقطوا توجه اللوم عليهم، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه، سقط عنه ما لا يقدر عليه.انتهى .
 
 وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره لهذه الآية أيضا : والنصح لله يدخل تحته دخولاً أوّلياً نصح عباده . ومحبة المجاهدين في سبيله ، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد . وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم : التصديق بنبوته وبما جاء به ، وطاعته في كل ما يأمر به ، أو ينهي عنه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، ومحبته وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة .انتهى من تفسيره .                                                                                                                                                                       فعلى من جعلهم الله أمناء على الأمة وجعلهم ولاة أمر- سواء علماء أو أمراء – أن يقفوا موقف الإمام أحمد في تشجيع من يريد الخير ولو كان ذلك الخير صغيراً أو خفياً غير ظاهر ، ما دام يصب في مصلحة حب الله ورسوله وحب الإسلام والمسلمين ولا فساد فيه ، فمن رأى في نفسه الاستطاعة والقدرة على مقاطعة بعض البضائع في سبيل إظهار تعاطفه مع إخوانه المسلمين أو إظهار غضبه على من حارب الإسلام والمسلمين من غير أن يشدد على الآخرين أو يحرم عليهم ما أباحه الله فله ذلك ونشجعه ونعينه ، خصوصاً أن أسلوب المقاطعة أسلوب قام به كل الناس مؤمنهم وكافرهم قديماً وحديثاً ، كما ذكر العلماء ، فلماذا نحرمه على من أراد أن يظهر تعاطفه لإخوانه المسلمين أو يظهر غضبه على من حارب الله ورسوله .
 
     فكل خير في إتباع سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين ، فكانوا يحثون الناس على الخير وان قل كما قال تعالى : ((  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8) )) سورة الزلزلة ، وقال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً  )) سورة النساء آية 40 .