إليكِ عني !
17 ربيع الثاني 1430
د. خالد رُوشه

[email protected]

قليلون هم المعرضون عن متاع الحياة , المنشغلون عن جواذبها , الزاهدون في مكاسبها , وأقل منهم هؤلاء العارفون بقلة شأنها ووضاعة الصراع عليها ..

النورانيون يكتشفون بفراستهم قرب زوالها , ويتوسمون ببصيرتهم دناءة أمرها , فيلجأون إلى الرضا بالقليل , والأمل اليسير , ويستعلون عن ألوانها البراقة بألوان العبادة التواقة ..

والله سبحانه لم يجعل محبة الدنيا خلقا للصالحين , ولا التنافس فيها مجالا للعابدين , بل جعل أمرها بورا , والنزاع على آمالها غرورا , بل لم يجعل سبحانه الركون إلى الدنيا وطول الأمل فيها والحرص عليها وجمع الأموال فيها والتنعم فيها من أخلاق الصالحين بحال , قال سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].

 

قال الحافظ في الفتح: "هذا تنبيه على إن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين"1 , فالحافظ ابن حجر ههنا قد قرر ما أثبت ما تقرر عنده من استقراءات للنصوص القرآنية وبيانات السنة الكريمة , وأفعال العلماء السابقين , أن ذلك ليس من أخلاق الصالحين ..فكيف إذن صار حال العالمين إلى هذا القدر الموغل في الخبال ؟!

 

ثم النبي صلى الله عليه وسلم يشير في كلامه إلى البراءة من التعلق بالدنيا , والنفور من السكون لها , والبعد عن التعلق بالعمارات والدور والأراضي والقصور , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) 2 , وأوضح أن حرص المرء على كسب المكانات واختزان الأموال فيها مضر لدينه أشد إضرار , فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)3

 

وبينما يرى الرائي حاله صلى الله عليه وسلم كفافا يجده ينصح المؤمنين من أمته باتباع نهجه فيقول لهم فيما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : (لقد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا وقنعه الله بما آتاه) (4 , وفي حديث آخر عن فضالة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع) 5
 
فقناعة بالرزق المقسوم مبدأ آخر يقره العالمون بحقائق الحياة , ويثبته كذلك الخبراء الذين عاينوا شأنها ودأبوا على معالجة أمراضها .
 
ومهما اتفقنا على كون الزهد في الدنيا ومتاعها ليس بفعل الظواهر , ولا بكثرة الأموال , وإنما بما يقر في القلوب من ميل إليها ورغبة فيها , فإننا لن نختلف أبدا أن حاله صلى الله عليه وسلم بالفعل كان تطبيقا للزهد فيها , ظاهرا وباطنا , والتقلل منها في جميع شأنها من أملاك وأموال , وملبس ومأكل ومسكن وغيره , فعـن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عنده الدنيا فقال :  (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان إن البذاذة من الإيمان)6 , والبذاذة هي التقلل من فاخر الثياب والترفه الزائد .
 
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمل الإنسان في دنياه, بل أمره أن يعيش كأنه غريب أو مسافر, وأمره ألا يضع أمله أمامه لأنه ربما يقطع عليه الموت , فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)7 , فلا عيش حقيقي غير عيش الآخرة ولاعيش دائم إلا عيشها ولاعيش نقيا طاهرا كاملا إلا هو .
 

ثم نرى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يقر معنى آخر من معاني الإعراض عن الملاذ ويعلمه صاحبه فيقول ابن عمر : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)  , قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا, ولا تُحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها, ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير موطنه, ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله...".

إن الدنيا زينة لافتة , وزخرف براق زاه , وأمل أبيض وضاء, كلما أضاء وبرق زهت في نظر صاحبه الأموال والحسان والقصور والمناصب , فينسى مع نظره المفتون متطلبات دينه وأمته, ويغمض عينه عن كثير من مسئوليات وتبعات وحقوق مقدسة , بل يغفل بالدوران مع رغباته عن هدفه الأعلى ورغبته الأسمى , لكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله الوضاء إنما يلفه محيط أسود حالك من علامات النهاية يتهدده في كل وقت

=================================

1- انظر: فتح الباري ج11 ص239

2- رواه مسلم 4/ زهد / 2272/ ح1.

3-رواه الترمذي (4/ ح2376) وأحمد في مسنده (3/456, 460) صححه الألباني صحيح الترمذي رقم 1935.

4- أخرجه مسلم 2/ زكاة/ 730/ ح125.

5- رواه الترمذي 4/ ح2349 وقال: حديث حسن صحيح, ورواه أحمد 6/19 وإسناده صحيح (انظر: الصحيحة 1506).

6- رواه أبو داود (4/ح4161) وابن ماجه بإسناد صحيح, انظر: الصحيحة (341)

7- متفق عليه, البخاري رقم 3585, , ومسلم رقم 1804 عن سهل بن سعد,

8- رواه البخاري (11/ ح6416/ فتح).

 

  
                                                    (( يتبع الجزء الثاني ))