
فتأتي فكرة الموت ههنا لتؤكد على ذلك المعنى تأكيدا يضطر الإنسان المؤمن إلى الاستشعار بالفقر والضعف الكاملين تجاه ربه سبحانه , والحاجة التامة له عز وجل ولإنعامه وعطاياه , فيرجوه ويسأله , ويحسن عمله ويطهر عبوديته .
كذلك فلا لذة دائمة في الحياة الدنيا يمكن أن يركن إليها الإنسان , وإنما اللذات منتهية وزائلة , فاللذة الحقة هي لذة المتاع في الآخرة , وإنما لذة الدنيا في استشعار معنى العبودية في كل شأن من شئونها والركون إلى جانب الله سبحانه والرضا بأقداره , لذلك أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بتدبر الموت أيضا من هذه الجهة فقال : " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " .. وذكر هاذم اللذات يقلل الارتباط بالدنيا ويقوي الارتباط فيما عند الله ..
ومن ثم كان هذا المعنى من أهم ماأكد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من فكرة الموت , فيروي البخاري أن ابنا لابنته زينب رضي الله عنها كان يحتضر , وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أن :" إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فاصبري واحتسبي " , والمعنى ههنا واضح تمام الوضوح والفكرة الإيمانية تتجلى بقوة في هذا المعنى , ومن أجل ذلك نجد المرأة الصالحة – أم سليم – توصل لزوجها أبي طلحة نفس الفكرة بصورة مبسطة جدا لما مات ابنه الذي يحبه كما أورد مسلم في صحيحه :" قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك .."
وفكرة الموت في الإسلام كذلك فكرة لا تقطع الحياة عن الآخرة كما يظن كثير من الناس , فيعتبرون الموت انقطاعا تاما وفراقا كاملا , بل إن الموت في الإسلام هو حاجز وممر بين الحياة الدنيا والآخرة , بل إن بعض الألفاظ الشرعية في وصف الموت تشعرك أنه وكأن هناك دارين بينهما حاجز وممر , أحدهما الدنيا والآخر هو الآخرة وممرهما هو الموت , فيسمى الموت عندئذ بالبرزخ , ولفظة البرزخ أعم من القبر , فكل ميت سواء حرق أو غرق أو غيره فهو في برزخ , يقول ابن كثير : ولو أحرق وذري في الهواء فهو في برزخ، إذ يصف أهل اللغة معنى البرزخ بأنه " الحاجز والممر " , فهما طريق واحد وحسبة واحدة وسبيل متصل .
والموت في الفكرة الإسلامية أشبه بمصفاة للخير عند المؤمنين الصالحين, فهم لا يفارقون صلاحهم ولايتركون الخير الذي قدموه ولا ينقطعون عن الهدى والفضل , إنما الذي يفارقهم هو تبعة الابتلاء الحياتي, وثقلة الجسد الدنيوي , ومسئولية التكاليف التي سيسألون عنها , أما المتاع الصالح فلهم مثله وخير منه , فالزوجات الصالحات العابدات , والذرية الصالحة الطيبة معهم في الآخرة ,:" والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم .." , وكل متاع كريم في الدنيا لهم وأفضل منه في الآخرة :" فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "