لازلت أذكر تلك الأيام الخوالي من رمضان _ منذ سنين مرت _ إبان كان العهد عهد الصفا , يوم كنت أعود مع أبي بعد أن نصلي صلاة الفجر في المسجد , ونسير عبر الطريق الطويل على كورنيش البحر, تشق أصوات الطيور مسامعنا التي نوت الصيام , ويطرق مسامعي من الجهة الأخرى أصوات التقاء حبات مسبحة أبي , وترتسم في خلفية ناظري حروف شفاهه وهي تُسَبح , وينظر إلىّ بابتسامة صافية سائلا إياي ( طبعا حتصوم السنة دي ! ) كان الكل في أول يوم من رمضان وفي أيام متتابعة يعتاد على صلاة الصبح في المساجد كما يعتاد أن يتنسم نسيم الصباح الصافي الممزوج بنوايا الصائمين وتسبيحات الملائكة وأماني القلوب الطاهرة .
لقد كنت أري أياد الجيران والأصحاب متشابكة تتداخل أصابعها بين فجوات الأخرى وتلتقي صفحات اليد باعثة بترنيمات عبر بسمات الشفاه فلا أرى في ذاك الصباح إلا علاقات المحبة والمودة وخيوط النور الشفافة التي تصل ما بين القلوب .
إنها علاقات النور إذ تتواصل في رمضان وشبكات القربي اللانهائية إذ تتعمق في ساعات الصوم , بينما الشيطان مكبل , والشهوات مكسورة , والرغبات محصورة , والأماني كلها في الله ولله
ودوما كنت أتذكر النبي _صلى الله عليه وسلم_ يوم خرج هو وأبو بكر وعمر وشبك بين أصابعه وأصابعهما بينما هو يصف لهم فلسفة الحياة وحقيقة الإيمان , وكأني أنظر إلى صغار الصحابة ( وكلهم كبار) أمثال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس يقلدونهم فيصف عبد الله بن عمر مشيته مع صاحبيه كمشية النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع أصحابه .
إنها علاقات النور إذ تتواصل في رمضان وشبكات القربي اللانهائية إذ تتعمق في ساعات الصوم , بينما الشيطان مكبل , والشهوات مكسورة , والرغبات محصورة , والأماني كلها في الله ولله .
وكأني أستمع إلى آثار وقع كلمات النبي _صلى الله عليه وسلم_ كوقع حبات الندى على وجه الزهر في صباح طاهر مضىء إذ يقول لأبي طلحة : " بخ , ذاك مال رابح , بخ , ذاك مال رابح " , وكان أبو طلحه قد قرأ قول الله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فجاء إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ قائلا له إن أحَبَ مالي إلي ( حديقة بيُر حَاء ) وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وزخرها عند الله تعالى , فضعها يا رسول الله حيث أراك الله , فقال النبي : " بخ , ذاك مال رابح , بخ , ذاك مال رابح وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أري أن تجعلها في الأقربين " .
كما تعاودني ذكرى ذاك الربط الرائع الذي ربط به النبي _صلى الله عليه وسلم_ بين الصوم و الصلة , فعن سلمان بن عامر فيما أخرجه الترمذي وحسنه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال : ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة , فإن لم يجد تمرا فالماء , فإنه طهور ,… ثم قال : والصدقة على المسكين صدقة وعلى ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة ) .
وما كان ذلك إلا في سياق عذب رقراق من علاقات الصلات بين المؤمنين في أيام الصلاح والتقى , فلكأنها حبات اللؤلؤ تتماسك بخيط نهر الحب الغامر فيروي أبو هريرة رضي الله عنه قول النبي _صلى الله عليه وسلم_ ( من عاد مريضا أو زار أخا له في الله نادى مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ) وعن عبد الله بن مسعود قال : ( جاء رجل إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : المرء مع من أحب ) .
أشفق على رمضان إذ يأتي والمسلمون متفرقون , والدعاة مختلفون , والجيران متباعدون , والإخوان متنافرون , وخيوط النور متقطعة بين الجميع !!
وها هم أصحابه رضي الله عنهم يتنسمون ذاك العبير ويهتدون بذيّاك الهدي , فيرسمون بريشة مرمرية صنوفا صاخبة من الروعة المنمقة في لوحة الأخوة المخلصة , يقول عبد الله بن عمر : _ فيما أخرجه الذهبي _ إني لأخرج من بيتي ومالي حاجة إلا أن أسلم على الناس ويسلمون على !
وعن نافع قال : أعطَى رجل عبَد الله فيَّ إثني عشر ألفا, فأبى عبد الله ذلك واعتقني , أعتقه الله .
وقيل لابن المنكدر أي الدنيا أحب إليك قال : الإفضال على الإخوان .
وبينما أكتب تلك الكلمات إذ يفجعني ذاك الواقع المرير الذي يأتي رمضان ليجدنا فيه بعد أن دب الشيب إلى مفارقنا وتقاربت تجاعيد الزمان إلى وجوهنا
اليوم يأتي رمضان وكل جميل يغترب , وتلونت علاقات الناس بلون المصلحة ذلك اللون الكئيب الذي قد غطى ما بين الناس من مكُرمات .
أشفق على رمضان إذ يأتي والمسلمون متفرقون , والدعاة مختلفون , والجيران متباعدون , والإخوان متنافرون , وخيوط النور متقطعة بين الجميع !!
لكأن خيوط النور التي نسجها ذاك الدين الأعظم قد اشتبكت في قلب حزين وانسكبت فلم تجد لها نهرا يروي ما بين صلات المؤمنين !
وبينما أتصفح كتاب شعب الإيمان للبيهقي إذا بي أجد تعليقا للإمام الحليمي رحمه الله على حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ الذي أخرجه الشيخان حول علاقات الصلة بين المؤمنين إذ يقول : " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتواصلهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي " قال الحليمي : وكذلك ينبغي أن يكونوا وكما لا يحب أحد لإحدى يديه إلا ما يحب للأخرى ولإحدى عينيه أو رجليه أو أذنيه إلا ما يحب للأخرى , فكذلك ينبغي له أن لا يحب لأخيه المسلم إلا ما يحب لنفسه , وينبغي له أن يحفظ أخاه ومال أخيه وعرض أخيه مما يحفظ به مال نفسه وعرض نفسه , وأن يحمد الله على سلامة أخيه حتى إذا أصيبت نفسه , كرجل يصيب إحدى يديه بلاء فيحمد الله على أن لم يصبهما معا , ولكن سلمت إحدى يديه , ثم ذكر حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه مسلم ( المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ) .
إن لحظات القيام التي يصطف فيها المؤمنون صفا واحدا في جوف الليل للحظات غالية ، وأوقات صادقة , تلك التي يتجرد فيها المرء من كل قيد ، ويتعالى عن الدنيا بكل ما فيه
إن صيام النهار وقيام الليل وقراءة القرآن حقيق بهم أن يخرجوا لنا في رمضان قلوبا متواصلة , وصدورا سليمة نقية , وعلاقات في الله مخلصة , ومجتمعات جديدة يربط بينها الحب في الله .
فالواصل _ لمن قطع من صلات بين الأقربين وذوي الرحم وإخوانه وأصحابه _ ليس بالمكافئ على عمل قد قدموه , وهو حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ في صحيح مسلم : " ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها " , فليست علاقتنا علاقات مكافأة بالمثل , وإنما هي علاقات وصل حتى إذا قطعها الآخرون .
والكريم في العطاء للفقراء والمحتاجين في أيام صومه ليس كريما لأجل سمعة ولا رياء , وإنما نبع كرمه من ظلال الصوم على ُمحَيّاة , وفي البخاري أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ " كان يأتيه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " .
إننا عندما نحب المؤمنين في الله يجب أن نفهم أن ذاك الحب من نوع خاص , نوع رقراق سرمدي عذب , لا تحتويه المواقف , ولا تنال منه الأحزان , إنه نوع من الحب تتخاطب فيه القلوب كخطاب الطير , لا تنازع بينها , ولا منافع , وإنما رضا وتغافر وبذل وتضحية وإيثار .
لقد تدبرت أحاديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ التي تحث على سلامة الصدر للمسلمين , وعلمت كيف أن تلك الصفة - على قدر أهميتها العظمى لنقاء المجتمع وطهارته - ليست في متناول كل أحد, إلا الذين مّن الله عليهم بقلب نظيف , وبنفس متجردة طاهرة , ومنح أعينهم قطرات دمع نقية كقطرات الوضوء التي تساقطت من أعضاء ذاك الرجل الصالح الذي دخل على أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال _صلى الله عليه وسلم_ ( يدخل عليكم رجل من أهل الجنة ) ..
إن مجتمعنا هذا لفي أمس الحاجة في أيام الصوم المباركة إلى آلاف وآلاف من أمثال ذلك الرجل الصالح الذي لا يحمل في قلبه بغضاء ولا شحناء ولا حقدا ولا حسدا لأحد ولا رغبة في العلو على أحد ولا حرصا على إسقاط أحد ولا أمنية في إيلام أحد….
لكم وددت أن تكون قلوب الدعاة إلى الله في رمضان متحابة نقية , متلاقية على معنى علوي رفيع نقي , فلا ثمّ رغبة في شهرة , ولا في علو على الآخر , ولكن رضا في أن يُجري الله الحق على لسانه مهما كان مختلفا معه .. ولا ثمّ سعيا إلى انتصار في خلاف زائف , ولا ظهورا جماعيا مغيظا , بل العودة إلى ميزان الحسنات والسيئات , فحيثما تكون مراقبة الرب سبحانه تكون الطاعة
إن لحظات القيام التي يصطف فيها المؤمنون صفا واحدا في جوف الليل للحظات غالية ، وأوقات صادقة , تلك التي يتجرد فيها المرء من كل قيد ، ويتعالى عن الدنيا بكل ما فيها ، فتصعد نفسه شفافة متعالية فوق كل أنواع الصراع .
وبينما تلامس الجبهة تراب الأرض في وقت السحر ساجدة ملتجئة فقيرة مستذلة ضعيفة منكسرة فهي تعلو على كل دنيء ، وتتسامى فوق كل وضيع، إنها تقترب من الملأ الأعلى ، وتسبح وتستغفر وتندم وتتمنى في تلك البيئة الإيمانية المؤثرة سابحة في كلمات قليلات من النبي _صلى الله عليه وسلم_ إذ يقول : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) أخرجه مسلم , إنه لمعنى لو تعلمون عظيم .