الحجاب قضية دينية
20 شوال 1430
يظن بعض الناس أن حجاب المرأة والأمر بستر جسدها بدعة إسلامية! وأسوأ منهم نفر يدعون أنها عادة جاهلية، وما درى هؤلاء أن الحجاب فضيلة أوجبتها الشرائع السماوية الكبرى قبل الإسلام.. فالشرائع السماوية جميعها اتفقت على الدعوة إلى المكارم وأسباب العفة، ومن ذلك الأمر بالحجاب، فالله قد خلق الزوجين الذكر والأنثى، وجعل بينهما ميلاً طبعياً فطرياً كان سبباً في بقاء الجنس البشري على مر القرون، ولم يزل جسد المرأة سبب فتنة وإثارة لمشاعر الرجال منذ قديم الأزمان، وكثير من الرجال يستفزهم أدنى ميل وتحرك كوامن نفوسهم أقل حركة بخلاف النساء، ولذا كان من الموافق للعقل والحكمة أمر النساء بالستر والحجاب والحشمة، ومن أمعن النظر في سر التشريع علم إعجازه وأيقن أن أمر النساء بالحجاب هو العدل والحكمة من وجوه كثيرة لايتسع لها هذا المقام.
ولهذا جاءت الشرائع الربانية جميعها حاضة على الحجاب آمرة به، وذلك لأن من مقاصدها حفظ النسل والعرض، وهو مقتضى العقل وراجح المصلحة.
أما الشريعة الإسلامية فمشروعية الحجاب فيها أظهر من يستدل عليه مسلم، وإنما وقع الخلاف بين الفقهاء في تغطية الوجه هل هو واجب أم مستحب، غير أنه نبتت نابتة في هذه الأعصار زعمت أنه بدعة، والحق أن هذا القول هو البدعة النكراء، وعموم قول الله عز وجل: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) يدل على وجب تغطية المرأة وجهها، فقوله عليهن تشمل إشارة الضمير المتصل جميع البدن دون استثناء، والجلباب قد يطلق في لغة العرب على ما يغطي جمع بدن المرأة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند سعيد بن منصور وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" وذلك في الحج حيث نهيت أن تنتقب فيه، والنهي عن النقاب في الحج يدل على مشروعيته في غير الحج، وحديث عائشة يدل على أن النقاب للمرأة في الحج كالثياب للرجل فيه..ومسألة وجوب تغطية الوجه خلافية مشهورة بحثها كثير من أهل العلم، لكن جميعهم مطبق على ندب المرأة له في غير الحج.
ويحارب اليوم تشريع الحجاب حفنة من العلمانيين المحدثين المقلدين لبعض الفراعنة وعبدة الأوثان من الرومان في عصورهم الوسطى ومن نحى نحوهم من عبدة النزوات، وأرباب الشهوات.. وإن تسربل بعضهم بسربال الإسلام ولبس أثواب الشريعة.
أما الرومان أول دولتهم فقد كانت فيهم بقية من آثار النبوة لصلة فلاسفتهم المتقدمين بأرض العراق والشام مهد النبوات، "فأساطين الفلسفة كفيثاغورث وسقراط وأفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان"[1]، وأما آخر دولتهم فقد تأثرت بالديانة النصرانية، ولهذا تُظهر بعض التماثيل والمجسمات في بعض عصور الدولة الرومانية المرأة فيما يشبه الحجاب.
وإذا رجعنا إلى الوراء وجدنا أن الحجاب الشرعي قد جاء الأمر به منذ عهد أبينا إبراهيم عليه السلام، وهذا مثبت في كتب القوم التي يقدسونها وهي بين أيدي الناس اليوم لا تزال فيها بقايا من تلك التشريعات، ففي سفر التكوين الإصحاح العشرين [16]: " قال لسارة إني قد أعطيت أخاك ألفاً من الفضة..
ها هو لك غطاء عينٍ، من جهة كل ما عندك، وعند كل واحد"، فهذا غطاء الوجه وضعته سارة وقد كان يغطي بدنها كله، وكانت تضعه عند كل أحد... وإن حاول تحريف المعنى بعض مشرعيهم ولاعجب.
وفي سفر التكوين أيضاً الإصحاح الرابع والعشرين [65] نبأ زواج نبي الله إسحاق برفقة، وفيه: "ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحق فنزلت عن الجمل [24: 65] و قالت للعبد من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي فأخذت البرقع وتغطت [24: 66] ثم حدث العبد إسحق بكل الأمور التي صنع [24: 67] فأدخلها إسحق إلى خباء سارة أمه وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها فتعزى إسحق بعد موت أمه"، والنقاب ورد ذكره ولبسهم له في غير موضع من سفر التكوين السابق ينظر مثلاً: [38:14] و [38:19].
وقد جاء في تلمود اليهود ذكر أشياء إن فعلتها المرأة تعدت التعاليم اليهودية فقالوا: "تخرج حاسرة الرأس، تغزل في السوق، تتحدث مع الجميع، .."[2].
وأما نسل إسماعيل عليه السلام فقد بقيت فيهم بعض آثار النبوة التي كان منها ستر المرأة الحرة الكريمة وجهها وصيانتها بدنها إلى عهد قريب من عهد البعثة، ولذلك تجد في شعر عنترة العبسي مثل قوله في قصيدته:
زارَ الخَيالُ خَيالُ عَبلَةَ في الكَرى لِمُتَيَّمٍ نَشوانَ مَحلولِ العُرى
قال في وصف ذلك الخيال:
وَكَشَفتُ بُرقُعَها فَأَشرَقَ وَجهُها حَتى أَعادَ اللَيلَ صُبحاً مُسفِرا
وفي قصيدته التي مطلعها:
فُؤادٌ لا يُسَلّيهِ المُدامُ وَجِسمٌ لا يُفارِقُهُ السَقامُ
قال:
لَها مِن تَحتِ بُرقُعِها عُيونٌ صِحاحٌ حَشوُ جَفنَيها سَقامُ
وله أيضاً:
جُفونُ العَذارى مِن خِلالِ البَراقِعِ أَحَدُّ مِنَ البيضِ الرِقاقِ القَواطِعِ
وفي معلقته قال:
إِن تُغدِفي دوني القِناعَ فَإِنَّني طَبٌّ بِأَخذِ الفارِسِ المُستَلئِمِ
وأغدفت المرأة قناعها، أي أرسلته على وجهها كما في جمهرة اللغة وغيرها.
ومن جيد مدحهن بالخصال قول الشَّنْفَرى:
لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ
وذكر القناع والمَقْنَع والمقْنَعة والبرقع واللثام والنقاب عند الجاهلين في الشعر مأثور معروف، فهذا الشأن عند أبناء إسماعيل حتى في عصور الجاهلية!
وأما أبناء إسحاق فقد ظل النقاب والحجاب ذو مكانة معروفة عندهم حتى النصارى منهم، فقد ظلوا يتمدحون به إلى أن بلغت الفتوح الإسلامية الشام، ولذلك تقول هند بنت النعمان بن المنذر وكانت نصرانية وقد أدركت الإسلام عجوزاً بعد فتح الشام لكنها بقيت على دين النصرانية تقول:
المجدُ وُالشرفُ الجسيم الأرفعُ لِصفيةٍ في قومها يتوقّعُ
ذات الحجابِ لِغير يوم كريهةٍ ولَدى الهياجِ يحلّ عنها البرقعُ
ولا عجب فالكتاب المقدس عند النصارى حتى في عهدهم الجديد جاء فيه لبس النقاب صريحاً، ومن ذلك ما جاء في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الحادي عشر، وفيه: " كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا، لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. [11: 6] الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى، فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ، فَلْتَتَغَطَّ".
وفيه أيضاً: "[11: 15] وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ تُرْخِي شَعْرَهَا فَهُوَ مَجْدٌ لَهَا، لأَنَّ الشَّعْرَ قَدْ أُعْطِيَ لَهَا عوضَ بُرْقُعٍ".. فالمرأة أعطيت الشعر زينة وأمرت بالبرقع سترة، ولا يزال العرف جار عند النصارى رغم تحريفهم معاني الكلم عن وجهه بعد تحريفهم كثيراً من الكلم من بعد مواضعه، رغم ذلك لا يزال غطاء الرأس شائعاً في كنائسهم ولاسيما الشرقية، ولا تزال بعض الراهبات يلبسن حجاباً كاملاً ساتراً لا تنقصه غير غطوة! وكذا شأن كثير من نساء النصارى من غير الراهبات في صلواتهن حتى الستينيات الماضية ولاتزال فيهن بقية إلى اليوم، وقد كان الخمار شائعاً بين النساء في الغرب حتى القرن السادس عشر، وظل إلى يوم الناس هذا بين كثير من الراهبات... ولا تزال تصاوير النصارى لمن يزعمونها أم المسيح مريم عليها السلام مشتملة على صورة امرأة قد سترت رأسها وجسدها، وإن صوروها حاسرة عن وجهها، فهل يجرؤون على إدانة ملبسها؟
ربما فعلت ذلك في مستقبل الأيام أمم تنكرت لأديانها وخالفت رسلها واتبعت شهواتها ورضيت بقيادة شرذمة من العلمانيين اللادينيين لها.. لكن ما نوقن به أنه لن تتبعها أبداً الثلة الطيبة المباركة المسلمة لا في تحريف شريعتها، ولا في ترك دينها، فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم إلى أن تقوم الساعة، والله أسأل أن يجعلكم منهم.