عودة إلى التربية القرآنية
4 ذو القعدة 1430
د. محمد العبدة
من الصفات الحسنة التي تتردد في القرآن الكريم لتربية الإنسان وصقل نفسه وتنمية شخصيته صفة الحلم ويضاده في بعض معانيه: (الجهل) الذي هو سلوك الرجل المتهور ، السريع الاهتياج، الذي يفقد السيطرة على نفسه، وتقوده عاطفة لا يستطيع التحكم فها، أما (الحلم) الذي هو النقيض الأساسي لهذا الجهل فهو سلوك الرجل القادر على كبت انفجار مرجل الغليان، الذي يكبح مشاعره السريعة الغاضبة ويتغلب على انفعالاته، ويبقى هادئاً لا يضطرب مهما حدث له، ومهما كانت درجة استثارته وقد عبّر شاعر مخضرم[1] أجمل تعبير عن الجهل حين وصف قدور قبيلته بأنها لا تحلم، لأنها تغلي دائما ( كناية عن الكرم)
 
     ودُهمٍ تصاديها الولائد جِلّةٍ                       إذا جهلت أجوافها لم تُحلَّمِ[2]
 
إن الحلم الذي مدحه الله سبحانه وتعالى ليس صفة سلبية وليس هو الخنوع والضعف، بل هو قوة إيجابية للشخصية القادرة على كبح جماح الطيش، والقادرة على التصبر والتجمل، وذلك لمعرفتها بالعواقب الحسنة الجميلة لهذا الخلق الذي هو علامة على قوة العقل، والشخص الضعيف لا يسمى حليما مهما تظاهر بالهدوء عندما يُهان أو يستثار، أما الحليم فهو الذي يمتلك القوة لمنع نفسه من أن تتصرف تصرفا طائشا لا فائدة منه.
 

الحلم جهد مستبصر لإبقاء النفس هادئة على الرغم من امتلاك الشخص القدرة على الرد، فهو يسامح ولكن من موقع القوة ومن موقع الأعلى، ولذلك وصف الله سبحانه نفسه بـ( الحليم)[3] لأنه يغفر الذنوب التي يرتكبها البشر، ويوصف سبحانه بأنه( لطيف) ولكنه لطف يقوم على القدرة المطلقة التي توحي دائماً بأن وراءها العقاب الشديد( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب).

 

الحلم قوة هائلة، وطاقة داخلية تظهر بمظر خارجي وهو(الوقار) كما قال الشاعر الأموي خلف بن خليفة:
 
عليهم وقار الحلم حتى كأنما                وليدهم من أجل هيبته كهلُ
 
وقد وصف سيدنا إبراهيم عليه السلام بالحلم( إن إبراهيم لحليم أواه منيب) [سورة هود:75] وهذا الحلم هو الذي وصف الله به المؤمنين في (الحديبية) حين لم تستفزهم حمية قريش وغطرستها، ورضوا بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقد الصلح، قال تعالى: ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها واهلها) [ سورة الفتح:16]

إن الابتعاد عن هذا الخلق يجعل الإنسان بعيدا عن امتلاك الفهم العميق للأمور، وهذا بدوره يؤدي به إلى أحكام ضحلة، ويؤدي به إلى فقدان الصواب.

 

وفي هذه الأيام الذي اشتد فيها الصراع الفكري خاصة بعد مجيء العولمة الثقافية ، حيث الضخ الإعلامي المسموم، ودعم الكتاب الليبرالي والعصراني[4]

ويقابل ذلك ضعف وانهزامية عند البعض واضطراب فكري يجعلهم يلجأون إلى التأويل والبعد عن صفاء الإسلام ونقائه، وقد يلجأ بعضهم إلى الانخراط في أي نوع من (الحراك) ولو كان إلى غير هدى، وربما يقول أحدهم: هذا أفضل من السكوت وعدم الحركة.

 

والسبب في كل هذا هو أن هؤلاء لا يملكون الصبر والعزيمة والرؤية الواضحة، ولا يملكون العقل الواسع الذي لا يستفزه هذا الاضطراب الفكري، وهذا الخلط في الساحة الثقافية وهؤلاء يفوتون الفرصة، فرصة القدوة والعزيمة أمام الشباب، وأمام جمهور الناس، ويهدمون ما بني لصالح الإسلام والمسلمين.
لا يستطيع أن يصبر على هذه الزعازع إلا من أوتي علما وحلما وتفكيرا في العواقب، يعلم أين يضع خطاه في كل حادثة وكل نائبة تصيب هذه الأمة، ولا تستفزه اللحظة ولا يقع أسيرا لمقولات قديمة وشعارات محنطة.


[1] الشاعر هو عمرو بن أحمر الباهلي
[2]دهم: سود             تصاديها: يعتني بها الخدم
 [3] (... إنه كان حليما غفورا)[سورة الإسراء:44]
[4] انظر الكم الكبير من الكتب التي تصدر عن الإسلام تحريفاً وتجهيلا ًوهجوماً، كما في سلسلة: (رابطة العقلانيين العرب) وقريب منها سلسلة: (الإسلام واحدا ومتعددا)