الدعوة الصامتة
25 ذو الحجه 1430
عبادة السيد نوح




تعيش مجتمعاتنا اليوم حالة من الغرابة في ممارساتها الحياتية ووسائلها المعيشية، فظاهر الصبغة المجتمعية إسلامي حتى النخاع وواقع الحال سبات حتى الموت.. فأين أثر الدعاة الدائم على أفراد المجتمع المسلم؟ وهل المشكلة في الدعاة أم في العوام؟

المتأمل في حال الحراك الإسلامي يجد أن العمل الدعوي والخيري في ازدياد مضطرد، والإقبال على المساجد والملتقيات ومؤتمرات يزداد، ومع ذلك نرى تأخر النصر الرباني في التمكين لشريعته في الأرض.

 

والحقيقة أن الناس لم يعودوا بحاجة إلى كثرة الكلام بقدر حاجتهم إلى قرآن يمشي على الأرض، وحاجتهم إلى أناس تعيش مجتمعاتنا في رخاء وأمن اجتماعي بعيداً عن النفاق والمكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية.

 

ويمكن القول بان التجارة الرائجة في الوقت الحالي هي القدوة السلوكية الصالحة التي تحكي حقيقة الدين بعفوية وإخلاص بعيداً عن مظاهر التسميع والرياء، فالتوجيه المباشر إلى فعل ما بمجرد الحديث غير كاف في عصر المعلوماتية والواقعية، وهذا ما نراه في آثار الخطب والدروس الدينية التي تـُلقى على مسامعنا ويذهب تأثرنا بها بعد دقائق معدودة وتنسى بين مفاتن الحياة.

 

فلتكن أنت ما تدعو إليه ، وأجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك ، ولا تحدثه عن الإيمان فقط بل اجعله يستشعره من النور الذي يضيء وجهك ، ولا تحثه على العبادة ودعه يراها أمام عينيه ، ولا تدعوه لمكارم الأخلاق وأجعله يحبها منك .

 

ويتعجب المرء عندما يسمع قول الصغار لماذا نصلي ولا نرى أحدا يصلى في المساجد، وبالتالي يدلل هذا المفهوم بأن هناك خللا تربويا كبيرا في حياتنا السلوكية والروحانية.. فهل تكون دعوتنا إلى الله صامتة أم نتكلم ونتكلم ولا يسمعنا أحد؟

ولعل المنهج الرباني في القدوة السلوكية القائم على الآية الكريمة{... وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}(الكهف:19) يؤكد طريق الإصلاح والتغيير، ويعتبر تجاوزاً من الدعاة أن يتخطوا هذه الآية إذا انطبقت عليهم الظروف نفسها.

ويستدل أيضا على ذلك بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية التي استأسدت قوى الكفر على جماعة الإيمان فأذاقوهم ألواناً من العذاب حتى لما هاجروا إلى الحبشة وكان المنهج آنئذٍ: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاة}، وقد قتلت سمية بحربة في قُبُلها ، وكذا زوجها قتل شهيدا ، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قوله: "صَبْرَاً آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إلى الْجَنَّةِ".

وما تحاكيه تجربة تركيا الآن يثبت حقيقة الآثار الايجابية المترتبة على هذا المنهج النبوي الفريد، فالمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والدعوية الضخمة أبرز دليل على نجاح آثار هذه الدعوة الصامتة القائمة على السلوك الحسن، فلا شعارات رنانة، ولا أصوات عالية على المنابر، ولا مظاهرات تأجيجية، ولا صراعات مقيتة، وإنما عمل تنموي يترجم قيم إسلامية في مجتمع غص بالإلحاد والعلمانية.

 

إن الإسلام انتشر في كثير من بلدان الدنيا بالقدوة الطيبة للمسلمين التي كانت تبهر أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الإسلام ، فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على دين الحق، فالقدوة المتحلية بالفضائل العالية تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة ، التي هي في متناول القدرات الإِنسانية وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال .