وقفة مع المصطلحات الوافدة
20 شوال 1431
وائل عبد الغني

بقدر ما تغيب قضية المصطلح الوافد عن الوعي الحاضر، بقدر حضورها في الفعل في مناحي حياتنا الثقافية والعلمية والاجتماعية والسياسية.


لقد تمددت في حياتنا العلمية والثقافية مصطلحات وافدة، من شأنها أن تعيد تشكيل رؤيتنا وذواتنا وثقافتنا وحياتنا، زاحمت كل شيء في خصوصياتنا؛ مداركنا وميراثنا.. كلياتنا العقدية وأحكامنا ومناهجنا وآدابنا الشرعية.. وتقاليدنا العلمية والعملية، بل حتى وظائفنا وسماتنا النفسية والاجتماعية بشكل باتت تضغط على أعصابنا وتوجه صيرورة مجتمعاتنا، بل وربما تختطف ثمار أجيال قادمة لم تر ولم تعرف.


هناك قسم من هذه المصطلحات: هي من قبيل المشترك الإنساني، خاصة ما يرتبط منه بالعلوم المادية بشقيها التجريبي والتطبيقي، يرى البعض أنه ـ جملة ـ حق للجميع، و هذا في نظرنا أقرب إلى الحق حين يمكن تخليصه من الصبغة المنهجية، والخصوصية الثقافية.


وهناك قسم آخر: لا ينفك عن خصوصية ثقافية، فهذا هو الذي يرفض غالبا أو يستدرك عليه، أو يستفاد منه ما لا يتعارض مع خصوصياتنا، وذلك حق لكل من يحترم ذاته ويعتز بخصوصيته، وهذا ألصق بطبيعة العلوم الإنسانية إذ إن المنهج حاضر فيها متحكم في سياقها وبنائها وتطورها.


أما القسم الأول: فحتى يسلم لنا .. فعلينا أن نجرد المصطلح من النزعة المادية في الصياغة والتعبير، وكذلك نجرده من مركزية العقل الغربي التي يسعى جهده لتضمينها أي جهد علمي، حتى تصبح الفكرة حقا للجميع فعلا.
ثم علينا أيضا أن نستنبت المصطلح في لغتنا العربية ذات البيان والقدرة على الاشتقاق، بحيث نعيد للغة فعلها العلمي، ومكانتها الإبداعية من جهة، ونقلع آثار الهزيمة النفسية والحضارية من جهة أخرى.


أما القسم الثاني: فالحديث عنه يطول، لذا يقتضي الحديث عنه ذكر بعض الحقائق.
إذ يمكن تناول التعامل مع هذا القسم على ثلاثة مستويات:
        مستوى المعرفة الإنسانية والتجارب البشرية،  فهذا متاح ،وهو ضمن منهج الاعتبار والسير في الأرض الذي أمر الله به عباده، فالتجارب البشرية ملك لكل معتبر، يأخذ منها المسلم ما يثبت عنده صوابه ويثمر في بيئته دون إشكال.
        ومستوى اقتباسه ووضعه موضع التطبيق بحذافيره رغبة واختيارا وهنا يظهر عدة إشكالات منها:
-        إشكالية المنهج المغاير والبناء القيمي والمعرفي..
-        إشكالية الخصوصية المرتبطة بالسياق التاريخي الذي فيه تولدت الخبرة وبني عليه المصطلح، ومدى مناسبة هذا للواقع عموما ولواقعنا نحن على وجه الخصوص.
-        إشكالية اللغة وإمكانية الترجمة عنها بدقة وأمانة دون إخلال أو تحريف، وهذا جلي في كثير من المصطلحات الوافدة.
-        إشكالية الالتباس الحاصل نتيجة المفارقة بين الظاهر والباطن أو بين الفكرة والتطبيق، أو بين المعلن والمخفي، أو بين تعدد المفاهيم دون جامع بحيث تحمل الشيء ونقيضه في ذات المصطلح.
        أما المستوى الثالث فيتعلق بعولمة هذه المصطلحات وفرضها كنماذج تهيمن على ثقافات الأمم وتتحكم في مصائر الشعوب والمجتمعات، دون أن يكون لأحد حق الاعتراض أو الرفض.. وتوظيفها في سياق مد استعماري بأدوات وأشكال جديدة.
وقد كان التخوف من هذا المستوى مجرد حذر وكلام فيما قبل.. لكن بعد أن رأينا آثاره في مجتمعاتنا في بضع سنين ـ رأي عين ـ من تعقيد وإشكال بل وتضليل وتلبيس تجعل رفضها من طبيعة العقلاء فضلا عن كونه مطلبا دينيا شرعيا، ومن هنا ينبغي أن يكون للتعامل مع مثل هذه المصطلحات شأن أعمق وهمٌّ أهم.

إن المصطلح يلخص في بنائه واستخدامه ثلاث وظائف حضارية غاية في الأهمية والخطورة:
وظيفة اللغة في قدرتها على حفظ المعارف والخبرات، والتعبير عن المعاني والمعارف والعلوم من أقصر طريق، وضبط الدلالة كصلة بين اللفظ والمعنى، على نحو يقلل الخلاف، ويؤالف بين الأفهام.. بما يسهل عملية التواصل والتفاهم داخل أفراد المجتمع من جهة، وبين الأجيال من جهة أخرى، بما يعني استمرار الفعل الحضاري في اتجاه مستقيم ودون انحراف أو انقطاع.
وظيفة القيم وما تحمله من حكم ضمني أو صريح على كثير من المعاني، فلا يمكن أن يصاغ المصطلح دون اعتبارها، والمصطلحات غالبا ما تختزن قيمة إلى جوار المعرفة أو ضمنها، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية والإنسانية.
وظيفة الفكر وما يحمله من إبداع في إدراك المعاني وإنتاج المعرفة في مختلف مجالات العلوم، والقدرة على مواكبة المستجدات وفق ذاتية حضارية تتمحور حول قيمة كبرى وتنتظم حولها قيم أدنى فأدنى، تنسج جميعها حركة دائبة في سبيل بناء الحضارة والعمران على شاكلة تلك القيمة الكبرى.


ومن هنا فإن إشكالية المصطلح لدينا اليوم تعرب عن جوهر أزمة يعانيها العقل، ويمارسها اللسان، وتحمل خلفيات التاريخ، وتحدد تقاسيم الهوية ومسار الثقافة قبولا ورفضا، وولاء ومعاداة، وتعريفا وإنكارا.
إن الانفتاح الثقافي وما جره من سيولة، وسهولة في التقليد والمحاكاة من جانب، وإحكام الهيمنة والسيطرة من جانب آخر.. يمثل اليوم تحديا بقدر ما يمثل من فرصة، إذا أخذناه بحقه وأدينا أمانته، فهو يتيح التواصل مع كل العقول المبدعة والقدرات الجادة في سبيل بناء فعل حضاري شاهد لا يقف عند حد الممانعة؛ بل يتجاوزها لإعادة الاعتبار للغة فتية عصية على التجاهل أو النسيان، ولمنهج بإمكانه أن يحدث طفرة الإيمان، ويقدم نموذج العلم والمعرفة الصالح الذي يعطي لكل ذي حق حقه بالعلم والعدل لا أن يغتصب الحقوق باسم العلم والعدل - كما فعل الغرب بعلمانيته حين انقلب على الدين- وقد اغتصبها من قبل باسم الدين.

أما «النسخ المصطلحي» الذي تستهدفه الأجندة الأممية فهو الطريق الأقصر للتبعية، والهيمنة المصطلحية هي السبيل لتغيير طبيعة الجسد ليتحول من خلايا طبيعية إلى طبيعة هادمة.
وليس الأمر يقف عند التبعية، وإنما يفتح الباب أمام حالة من الفوضى القيمية، لا تستهدف الدين في أحكامه والهوية في بنيتها الظاهرة فحسب؛ وإنما تستهدف اجتثاث معالم الفطرة في أعماق النفوس وهذا ما ينبغي بحثه والتأكيد عليه.

إنه ليس مجرد غزو ثقافي عرفناه حينا من الزمن فيما قبل، وإنما أمام استعمار يستهدف بنية الهوية ويستهلكها في معارك جانبية بعيداً عن قضايا الأمة التي أخرجت من أجلها للناس.
وتحاول قوى دولية جاهدة ـ أو عابثة ـ فرض أنماطها وتقاليدها وخبراتها التاريخية، على ما فيها من شذوذ وإشكالات تخصها وحدها، على المجتمعات المسلمة.
وفي سبيل هذا توظف قوى العولمة من أجل بسط سيطرتها اللغوية والمفاهيمية على الشعوب المستضعفة من أجل ما يزعم أنه توحيد لنمط السلوك والإدراك على مستوى العالم، لكن الواقع يشهد بحالات من الفوضى والتشظي والتشرذم والتمحور حول أنماط وضيعة من القضايا، وكأن قوى العولمة قد أفلحت في شيء واحد هو امتلاك آليات تفكيك المجتمعات باسم الحرية والمدنية، وتخليفها باسم التقدم.


إن إعادة تعريف الأشياء وفق الأجندة الأممية هي بالمنطوق الحداثي: إعادة إنتاج الثقافة على النحو الذي تصممه الأهواء العولمية دون أن  يكون لذلك صلة بدين أو عرف أو رصيد حقيقي من التجارب التي تحترمها البشرية بالسليقة مهما خالفتها، فتستحيل هذه الأجندة هيمنة تجعل من ثقافة الأمم المستلبة مسخا، هذا النموذج هو الممهد للاستعمار العسكري، بل قد لا تكون هناك حاجة لدور الآلة العسكرية حين تنتزع القوة وتستلب الهوية..


هل نحن أقوى من فرنسا التي ثارت ثائرة رئيسها لمجرد استخدام دبلوماسي فرنسي للإنجليزية في محفل دولي، وهي لغة قريبة النسب باللغة الأم، و لهذا بلغ  الشعور بالإهانة مداه فانسحب لا يلوي على شيء؟
إن حزمة المصطلحات التي تتبناها الأجندة العولمية هي في بؤرة المصطلحات التي ينبغي التحذير منها، لأنها تسعى لإنتاج رؤى لم تعرفها البشرية من قبل في أحط عصورها، لم تنتجها معرفة وإنما تمنتها أهواء؛ فكانت على النحو الذي تمنته، ولأنها تستهدف إعادة تعريف مفردات حقائق الوجود البشري على وفق ما أشربت من هواها: كالدين، والإنسان، والمرأة، والفرد، والطفل، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والحرية، والسلام، والإرهاب، والمدنية ...إلخ.


وبالتالي فهي تعيد صياغة العلاقات على النحو الذي تشتهي، ومن هنا كان استهدافها لأصل الدين (الإسلام) في صميمه بعقائده وتشريعاته ونظمه وأخلاقه، فلم تترك شيئا من هوية الأمة ودينها وعافيتها وروابطها إلا وسعت لتبديله على هذا النحو.
وقد بدأنا نلمس تغييرا يُعجز المراقب إدراكه - فضلا عن التعامل معه - خاصة حين لا يدرك أبعاده المنهجية على الوجه الصحيح.


إن المسلم بذاته مدعو إلى الحق أينما كان، موجه نحو الحكمة حيثما كانت، مستقر في روعه أنه أحق الناس بها، شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي صلح الحديبية: «والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها».[رواه البخاري: رقم: 2731]
لكن المشكلة التي بين أيدينا هي في المشتبه الذي لا يعلمه كثير من الناس، وفي الملتبس الذي يحمل حقا وباطلا فيضيّع ما يخفيه من باطل ما يظهره من الحق!!
فعلى المقتصد أن يسد بابه، وعلى المحسن أن يعرف وينكر ويأخذ ويترك.. وعلى الله قصد السبيل..

- المصدر : لها أون لاين
=====================================

** أصل المقال مقدمة لكتاب ( المصطلحات الوافدة وأثرها على الهوية الإسلامية ) للكاتب والباحث الهيثم زعفان , والكتاب من إصدارات مركز الرسالة للدراسات والبحوث بالقاهرة .