المنصب و حلمي الذي ذهب مع الريح
10 محرم 1431
د . ديمة طارق طهبوب

في تصنيفات الرجال الأكثر تأثيرا في العالم يحتل بيل غيتس دائما مواقع متصدرة على المستويات الاقتصادية و الاجتماعية الانسانية و التكنولوجية،و مع انه جاء من عائلة من الطبقة المتوسطة لأب محام و أم تعمل في مجال البنوك، و لكن بالجد و الاجتهاد و المثابرة و توفر الفرص في أمريكا تمكن في سنين قليلة أن يصبح أغنى رجال العالم و الشريك الأكبر و رئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت للكمبيوتر و البرمجيات

و في محاضرة لبعض تلاميذ المدارس الثانوية نقل لهم غيتس خلاصة خبرته و كيف صار الى ما صار إليه ، فقال إن العالم يتوقع منكم إنجاز شيء قبل الاعتراف بكم ،  و إن قلي البرغر و غسل الصحون ليس عيبا ، و ما ترونه كحط لكرامتكم رآه أجدادنا كفرصة واجبة الاقتناص ، و إذا أخطأتم فهذه ليست مشكلة آبائكم لانهم لم يحسنوا تربيتكم

إنها مشكلتكم و عليكم مواجهة أخطائكم بشجاعة و مسؤولية، و قبل أن تنقذوا الدنيا و تحدوا من انتشار الأسلحة النووية و الاحتباس الحراري، ابدؤا بتنفيذ غرفكم و ترتيب خزائنكم ، لن يساعدكم أحد على إيجاد أنفسكم و لا تحقيق أحلامكم ما لم تتخذوا الخطوة الأولى بأنفسكم، و الحياة ليست برومانسية أفلام التلفاز ، في واقع الحياة لا يمضي الناس وقتهم في المقاهي بل يذهبون للوظيفة و الكد.

مهما اختلفنا أو اتفقنا على مبادئ العالم الرأسمالي الا اننا لن نختلف على أن دول هذا العالم تحترم قيمة العمل الإنساني وتعتبه المؤهل الأول و الأهم للمنافسة و المنصب، فها هو محام أسود في بلد كان يستعبد السود و خاض حروبا دامية للابقاء على عبوديتهم و ساوى بينهم و بين الكلاب و كان يعتبر قتلهم و قصاصهم كما كانت تفعل جماعات تعرف بالكلوكلوكس كلان تقربا للرب، يصبح رئيسا لأمريكا و يكون شعار حملته نعم نستطيع Yes We Can ، و كذلك النساء في ألمانيا التي كانت في عهدها النازي تعلي من السلطة و التسلط الذكوري وصلن أعلى الهرم السياسي و التنفيذي

أما الدول العربية فاستباحة و انتهاك العمل الإنساني تسودها على مختلف المستويات و منها تولي المناصب حيث يغلب وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب و حيث لا يكون للمجتهد أي نصيب و لا مكان للتفوق الأكاديمي و لا التميز الشخصي أو الانجاز الوظيفي، و يكون النسب و الصلات و رأس المال و الولاء المطلق من أسباب التفضيل

و العالم العربي يعاني من ردة صارخة و معلنة تجاه الإرث و التوجيهات الدينية التي تؤكد على رفعة المرء بإيمانه و مؤهلاته في ثنائية متلازمة ، فليس الإيمان وحده الحكم في تولي المسؤولية، و هذا ما أفهمه الرسول صلى الله عليه و سلم لابي ذر عندما سأله الولاية و كان من خيرة الصحابة المتقدمين،فقال له" إنك لضعيف و إنها لأمانة و إنها يوم القيامة خزي و ندامة الا من قام بحقها و أدى الذي عليه فيها"

و لقد تقدم في صحبة الرسول و خدمة المسلمين من كانوا عبيدا و موالي مثل بلال و عمار و سلمان، و قد بلغ من منزلة سلمان الفارسي عند الصحابة أن أراد المهاجرون و الأنصار نسبته إاليهم حتى نسبه الرسول عليه السلام الى آل البيت الذين تصلهم صلاة و دعاء أمة محمد الى يوم الدين، و خلد العرب تفوقا لأفراد في مكارم الأخلاق من غير علية القوم فقال الشاعر يمدح أحد الخلفاء بأخلاقهم:

إقدام عمرو في سماحة حاتم   في حلم أحنف في ذكاء إياس

 و سلك معن بن زائدة دروب المعالي و ساد قومه و لم ينزعج عندما ذكره الشاعر بأصله و كيف بدأ حياته فقال له:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة    و إذ نعلاك من جلد البعير

فرد عليه معن: أذكر و لا أنسى

فقال الشاعر: فسبحان الذي أعطاك ملكا      و علمك الجلوس على السرير

فرد معن الفضل لله قائلا: سبحانه يعز من يشاء و يذل من يشاء

و لم ينتكس الحكم الاسلامي الا عندما أصبح جبرا لا اختيارا و تفضيلا و شورى، و مع ذلك تشهد صفحات التاريخ بإناس فضلوا العام على الخاص و الأمة على العائلة و النسب، فرفض سيلمان بن عبد الملك عند موته تولية الخلافة لابنه و قال "لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب" فعهد اليها لعمر بن عبد العزيز

و لقد أسقط الاسلام التقدم بالأنساب فيوم القيامة و الحساب يحكم على المرء بعمله لا بنسبه اذ قال تعالى "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون"

وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال:قلت لجعفر بن أبي طالب و كان والي المدينة:احذر أن يأتي غدا رجل ليس له في الاسلام نسب و لا أب و لا جد فيكون أولى برسول الله صلى الله عليه و سلم منك كما كانت إمرأة فرعون أولى بموسى و كما كانت إمرأة نوح و إمرأة لوط أولى بفرعون، و من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، و من أسرع به عمله لم يبطء به نسبه"

و أمسك الرسول بيد فاطمة و قال لها" يا فاطمة يا بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، و لم يمنع شرف الأصل من إقامة الحد على المرأة المخزومية عند اقترافها للذنب

في ظل معطيات العصر الحديث الذي لا يعترف بمقومات الانسان ، ندمت أشد الندم على أن أبي لم يورثني مهنته كطبيب ، و بالتالي لن أرث موقعه السابق في رئاسة نقابة الأطباء ، و ذهب حلمي بالمنصب أدراج الرياح !! فهل فات الوقت لأدرس الطب أو أحصل شهادة مزورة أو أي شيء يمكنني من إستعادة إرث أبي غصبا و احتيالا؟؟

في مثالية من الزمان قال الشاعر:

كن ابن من شئت و اكتسب أدبا     يغنيك محموده عن النسب

إن الفتى من قال ها أنا ذا    ليس الفتى من قال كان أبي

و سنبقى نلح و نذكر بأيام المثالية و سالف عهد المجد لعل قطرات الماء تفتّ الصخر و يدور الزمان دورته و تتداول الأيام و يمكث في الأرض ما ينفع و من ينفع الناس