حين تنتكس الفطرة وتنقلب على أعقابها , وعندما يصبح الأبوان - مصدر الأمان والاطمئنان - مصدرا للخوف والرعب والتدمير لأبنائهم , وحينما نرى آباء وأمهات يُقدِمون على الإيذاء المتعمد الجارح ماديا ومعنويا لأبنائهم, وحين يزداد الطين بلة وتصل الطامة الكبرى إلى أن نسمع عن جرائم قتل حقيقي متعمد للأبناء على أيد ملوثة خاطئة من آبائهم - مهما كان مبررهم إن كان لهم مبرر من الأساس - حينها ندرك يقينا أننا نسير بخطى مسرعة إلى الهاوية وندرك أن العالم العربي والإسلامي يحتاج إلى جهد خارق لا يكل ولا يمل من المربين والعلماء ليتداركوا ما تبقي للأمة من أخلاقها وقيمها ومبادئها .
إننا لا نتعجب من هذه اللفتة الهامة الحكيمة في كتاب الله الكريم حين أوصى ربنا سبحانه كل إنسان بالقيام بحق أبيه وأمه وحسن رعايتهما بينما لم يوص أحدا من الناس قط بحسن رعاية أبنائه , فتنطق الآيات الكريمات بوصية الله لعباده بحسن معاملة الأب والأم وحفظ حقوقهما والاحسان إليهما خاصة عند الكِبر في ثلاثة مواضع فقال سبحانه " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ... العنكبوت " وقال " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ .... لقمان " وقال " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ... الأحقاف " , لكنه في الوقت نفسه لم يوصه على أبنائه بنفس الوصية في أي موضع في القرآن الكريم فلم ترد فيه آية واحدة بنفس اللفظ , والآية الوحيدة التي أوصت الآباء على أبنائهم كانت في الحقوق المادية قبيل مفارقة الحياة بالعدل بين أبنائهم في قسمة ما تركوه من أموال وذلك باتباع منهج الله فيها وعدم مخالفة أحكام الشرع في أحكام المواريث بدافع الحب او البغض للأبناء , فقال سبحانه " يوصيكمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .. النساء " ولم ترد وصية أبدا في حب ورعاية الأبناء , وذلك لأن الانسان لا يحتاج في معاملة أبنائه إلى وصية فهي فطرة فطر الله عليها الناس بل كل المخلوقات ولا تحتاج إلى مُذكر يذكر ويوصى بها
إن عددا غير قليل من أبناء الأمة يعانون من استخدام آبائهم أسلوب الضرب الشديد والمبرح والجارح والمهدر للكرامة كوسيلة عقابية أو تأديبية لا تخضع لقانون ولا تنظيم ولا هدف ولا يوجد لها حد اقصى تنتهي عنده , ومنهم من يستخدم يده وقوته ومنهم من يستخدم وسائل لا يستعملها إلا المجرمون في تعذيب ضحاياهم .
فيروي بعض الأبناء أحداثا ووقائع تدل على غياب البعد التربوي في عملية الضرب وتدل على أن هناك شعورا خفيا بالانتقام منهم لا مجرد تقويمهم كما يزعمون فيقول أحد الضحايا شاكيا " أنا شاب في العقد الثالث من العمر ومتزوج ، وزواجي ناجح والحمد لله . مشكلتي أن لي أباً متسلطاً مصراً على تحجيمي كلما كبرت أو صار لي شأن في الحياة. منذ صغري وهو يقسو علي ويطالني كل يوم بالتقريع وبالضرب في بعض الأحيان لسبب ودون سبب , وكثيراً ما كان يضرب أمنا أمامنا لأتفه الأسباب "
ومثل هذا كثير في مجتمعاتنا التي تزداد فيها نسبة ضرب الأبناء كسلوك متبع ووحيد لتقويمهم أو لمعاقبتهم او الانتقام منهم على الرغم من تحذير المربين من استخدامه كوسيلة وحيدة أوالافراط فيه عند استخدامه .
ويعتبرهذا السلوك شائعا في كل المجتمعات تقريبا , ويظهر ذلك جليا في الاستطلاعات الكثيرة التي تقوم بها الجامعات المختلفة في جميع ارجاء العالم , ففي دراسة لجامعة تولين الأمريكية استمرت لمدة عام مجموعة كبيرة من الأطفال شملت أكثر من 2500 طفل ، وجد خلالها الباحثون أن الذين يُعاقبون بالضرب في سن الثالثة تزداد لديهم الميول العدوانية في الخامسة ، أما الذين يتعرضون للتعنيف الجسدي اعتباراً من السنة الأولى من عمرهم فقد يواجهون خطر التخلف الدراسي وأن الصغار الذين تعرضوا للضرب كانوا يتصرفون بعنف ويمكن استفزازهم بسهولة، كما كانوا يصرون على تلبية طلباتهم بسرعة، ولوحظت عليهم تصرفات حادة حيال الآخرين ولوحظ أنه عند تكرار الضرب يرفع لدى الطفل منسوب القلق وأكد الدارسون أن أحد أهم أسباب ضرب الطفل هو زرع الخوف في نفسه ليكف عن القيام بأمر ما بدلا من محاولة إقناعه بالكف عنه بطريقة منطقية
إن الكثير من الأبناء الآن يصطرخون ويطلبون الإنقاذ من تلك المعتقلات التي دخلوها بلا جريمة محددة وبلا عقوبة واضحة وينتظرون ويتحينون الفرصة للخلاص من براثن مَن كان يفترض فيهم أنهم حصن الأمان وموئل الراحة والسعادة
وهناك أسباب كثيرة ومتعددة تدفع الآباء لانتهاج سلوك ضرب الأبناء كخيار وحيد ودائم ومتواصل لعملية تقويم وتربية أبنائهم منها :
- البعد عن المنهج النبوي في التربية
كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا كل البعد عن الضرب بل نهى عنه صحابته ففي صحيح مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: ( اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله هو حرٌ لوجه الله. فقال: ( أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار) , وفي البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من خيبر ومعه غلامان فوهب أحدهما لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: " لا تضربه؛ فإنّي نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإنّي رأيته يصلي منذ أقبلنا "
. ويقول أنس عن حسن معاملته صلى الله عليه وسلم معه وقد كان خادما - فكيف بمعاملته مع فلذات كبده - ففي صحيح سنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي، أن أذهب لما أمرني به. قال: فخرجت حتى مر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك. قلت: نعم! أنا أذهب يا رسول الله. "
- تعرض الآباء للضرب من آبائهم وهم صغار
فعند تعرضهم للضرب المتواصل من آبائهم واعتيادهم على تلك الوسيلة وحدها في التقويم , قد لا يجدون خيارا مع أبنائهم سوى الاستمرار على نفس النهج الذي كان مرفوضا منهم قبل ذلك وهم أطفال وربما يقتنعون أن تلك الوسيلة - حتى وإن بدا فيها بعض الشدة - إلا أنها أنجع الوسائل في التربية ويعتقدون أن وجودهم الحالي وما وصلوا إليه من مراكز علمية أو ثقافية أو مالية هو أكبر دليل على صحة وفاعلية تلك الوسيلة
- عدوانية الآباء الموروثة
معظم الذين يتعاملون مع أبنائهم بتلك الوسيلة وحدها يعانون من عدوانية شديدة وحِدة في طباعهم , حتى وإن تظاهروا بعكس ذلك وأظهروا الوداعة واللين في أخلاقهم , ولذا فهم يحرصون دوما على اظهار جانب مشرق من شخصياتهم للناس ويكون دوما الجانب الأسوأ والأكثر إظلاما منهم من نصيب أبنائهم وزوجاتهم وذويهم وهم الأولى دوما بالرعاية والعطف وحسن المعاملة
وهذه العدوانية تظهر في المظهر الانتقامي الذي يتعامل به الآباء مع أبنائهم حين يضربونهم حيث لا يبينون لهم سبب الضرب ولا يعلمونهم بالخطأ الذي ارتكبوه كي يتجنبوه بعدها , وأيضا تظهر في القسوة الشديدة التي تصل إلى إحداث الجروح وإهدار الكرامة على مرأي ومسمع من الجميع بلامبالاة بالتأثير النفسي السلبي لهذا السلوك على نفسية أبنائهم
- ضعف الثقافة التربوية وإهمال نصائح المربين
قد يولد الإنسان ويُعامل بهذه المعاملة السيئة من والديه أو أحدهما ويكرر نفس الفعل بداعي التقليد لسلوك والديه عند تربيته , ولكنه قد لا يعتبر أن التربية علم من العلوم له رجاله ومختصوه , وأن ما ينصحون به هو نتاج سنين من الخبرة والدراسة للسلوك البشري , ومنهم من يسمع نصائح المربين أويقرأ كلماتهم ويجد منهم تحذيرا شديدا من مغبة التجاوز في استعمال هذه الوسيلة على نفسية أبنائهم ولكنه قد لا ينتصح ولا يجعل لتلك النصائح قيمة تُذكر حين يحدث خطأ ولو كان صغيرا من أولاده
- ضغوط الحياة وتنفيس الكبت
للناس في تحملهم ضغوط الحياة مراتب وأيضا في تنفيسهم لتلك الضغوط وسائل متنوعة , وأسوأ الناس من يجعل أهل بيته كزوجته وأبنائه الصغار متنفسا لما يتحمله من ضغوط الحياة , فتراه إن كثرت عليه الضغوط والمشكلات وضاقت عليه الحياة بما فيها ولم يستطع أن يخرج ما في جوفه أمام من سبب له تلك الضغوط تراه يخرجها أمام الجانب الأضعف وهي الزوجة والأطفال , تراه كثير الشجار مع الزوجة وكثير الانفعال على الأبناء وإذا قرر أن يعاقب أحدهم تراه يعاقبهم بكل قسوة وشدة بما لا يتناسب أبدا مع حجم الخطأ أو عقلية الطفل أو نفسية المرأة
- سيطرة الغضب على الانسان
الغضب سمة بشرية لا ينفك الإنسان عنها ولكن الاسلام وجهنا لتوجيه الغضب لا لمنعه بالكلية ووأمرنا بملك النفس وإلجامها عند الغضب , فالشديد هو من يملك نفسه عند الغضب , وكظم الغيظ عند القدرة على إنفاذه - وخاصة مع الضعيف مثل الزوجة والأبناء - من أعظم القربات وأفضل الوسايل لنيل الغايات كما روى أبو داود بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق ، حتى يخيره من أي الحور شاء "
ولهذا يعتبر الضرب بشروطه وآدابه الشرعية آخر الدواء بشرط سلوك باقي الوسائل وعدم التفريط فيها , وينبغي أن لا يكون من الكثرة بحيث أنه لن يؤثر بعد ذلك في الأبناء وسيفقد الآباء نهائيا السيطرة على أبنائهم فما عساهم أن يفعلوا معهم بعد ذلك إن تمادَوا في أخطائهم ؟!!