[email protected]
إنها صورة لمن ملك الرفعة والسمو عندما تقترب من رؤية العيون وتختلط بالحياة الأرضية في التطبيق والتنفيذ ... إنها صورة الضوء العالي المنير في السماء بينما يرسل نموذجا منه لتظهر على صفحات ماء الأنهار والبحار , يراها الناس قريبة منهم متواضعة لهم وحقيقتها أنما هي أعلى من السحاب ..تلكم اخلاق الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عندما نريد تصفحها ونرغب في دراستها ورؤيتها وتتبع آثارها ..
فالقاريء لسيرة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا أن يقف مشدوهًا منبهرا عند الخصال التي اتسم بها
وإذا كان ذلك الانبهار قد يكون طبيعيا من المؤمنين الذين آمنوا به وعرفوا صدقه وقدره كنبي خاتم للبشرية جمعاء , فإن انبهارا من جهة الدارسين لسيرته من غير المؤمنين به قد يكون دليلا جديدا على عظمة تلك الأخلاق وتفرد تلك الصفات ..
فمنهم من يرى فيه عبقرية سياسية غير مسبوقة ومنهم من يرى فيه إنسانًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى
ويمكننا ملاحظة خلق واحد من أخلاقه صلى الله عليه وسلم وتتبع تطبيقه له لنخرج برؤية نخاطب فيها كل أعدائه خطابا واضحا لالبس فيه هو خلق التواضع وقد اخترته للبيان والمقارنة إذ إنه خلق عزيز جدا على كل ملك أو متوج أو زعيم أو حاكم ...
يمكننا ابتداء ملاحظة أن الأشخاص المقربين منه صلى الله عليه وسلم كان يُطلق عليهم "الصحابة"، ولم يُسموا الوزراء أو الحاشية أو غير ذلك من المصطلحات التي ألفناها في التاريخ الحديث، حيث أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يحيا حياة ملك أو إمبراطور أو يعامل من حوله من ذلك المنطلق، بل كان هو الداعية، والمربي، والصاحب، والصديق، والقائد، والمُعلم.
وقد ضرب أروع مثال على تواضع القائد يوم أن حمل التراب أثناء حفر الخندق- في غزوة الخندق- وقام بنقله مع صحابته بلا كلل أو تأفف بالرغم من أنه كان في استطاعته أن يكلفهم بالحفر دون أن يشق على نفسه بحمل التراب على ظهره، ولكنه القائد والمُعلم الذي يغرس بالدروس العملية معاني التواضع والتعاون والمشاركة.
وهو كذلك نصير الضعفاء وأصحاب الحاجات والفقراء حيث كان يزورهم ويمشي في حاجاتهم ولا يترفع عن مساعدتهم أو ينأى بجانبه عن الاحتكاك بهم لرقة حالهم، فقد كان لا يستحي أن يمشي مع العبد أو يساعد الأرامل والمساكين.
يقول "سهل بن حنيف" رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم"، وذلك على الرغم من عظيم انشغاله، وثقل المسئوليات التي كانت تقع على عاتقه .
فهو لم يعبس في وجوههم أو يعاملهم بغلظة , بل كان حانيًا، رحب الصدر لشكواهم، حتى أن أنس رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة الجارية لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت" البخاري ، ما يدل على لين محمد صلى الله عليه وسلم للمحتاجين أيًا كان حالهم، أو وضعهم الاجتماعي دون ازدراء أو تكبر.
وإذا ذٌكر تواضعه صلى الله عليه وسلم ، فإنه مما لا يمكن إغفاله أنه كان محببًا لدى الأطفال من فرط حنانه وعطفه عليهم، فكان إذا مر في طريقه على أطفال يلعبون يُسلم عليهم ويلاطفهم بكلمات حانية، وهو فعل كثيرًا ما يصعُب على النفوس القاسية جامدة المشاعر.
يصعب أن نجد من بين الناس من فُتحت أمامه أبواب الملك والجاه والسلطان بقدر ما فٌتح أمام محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا أن أحدًا من معاصريه أو ممن جاء بعده من مصدق لرسالته أو منكر لها لم يستطع أن يوصمه بأنه كان مختالاً أو مغرورًا أو حتى فيه شيء من كبر بالرغم من أنه القائد الذي ترامت أطراف إمبراطوريته شرقًا وغربًا وأثرت تعاليمه في ملايين البشر وظلت ساطعة حتى يومنا هذا على الرغم من المحاولات الدائمة للنيل منه .
ومحمد صلى الله عليه وسلم لو أراد أموالاً، وقصورًا، وحراس أمن، وخدما يسهرون على راحته لكان ذلك ملك يمينه , ولكنه لم يكن يبحث عن عز لنفسه أو إرث لأهله بل كان مرامه منذ أول لحظة من بعثته أن ينشر منهج ربه ويبلغ رسالته ويقابل مولاه وقد أدى أمانته التي كلفه بها على أتم وجه.
فنراه موضع إعجاب أتباعه، وموضع دهشة وحنق أعدائه الذين يدهشون من مدى حب صحابته له وإيثارهم إياه على أنفسهم حتى أن شيخ مكة ورئيس قريش "أبو سفيان بن حرب" قال- وكان كافرًا آنذاك- : "ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً".
على النحو الآخر نجد كثيرًا من المؤرخين يُرجعون محبة أتباع محمد له إلى سمات شخصيته التي جمعت بين الجدية ولين العريكة.
يقول المستشرق "وليام مونتجومري وات" إن محمدًا "اكتسب احترام الناس وثقتهم عن طريق أعماله التي بُنيت على أساس ديني وكذلك خصال تمتع بها كالشجاعة والحزم والنزاهة ... إلى جانب أنه كان يتمتع بأخلاقيات تأخذ بمجامع القلوب منحته محبتهم وأمّنت إخلاصهم".
كما نجد أن تواضعه صلى الله عليه وسلم كان من بين أبرز أخلاقياته الملحوظة في التعامل والمواقف التي قد يراها الناس بحاجة الى فخر او اعجاب فلم ينسب لنفسه قط أي نصر حققه على أعدائه مهما كانت صعوبة هذا النصر، مؤكدًا أن النصر جاء بعون الله وتأييده وليس عن حكمة منه أو نفاذ بصيرة.
كما كان لا يتعالى عن مساعدة أي صاحب حاجة مهما كان بسيطًا أو فقيرًا، كما كان لا يترفع عن مساعدة أهله حتى في الأعمال التي قد يعافها الكثيرون من تنظيف وحياكة وغيرها , وهي سمة استرعت انتباه المؤرخ البريطاني، "إدوارد جيبون"، الذي قال "إن الوعي الأخلاقي الطيب لمحمد نبذ خيلاء السيادة. فقد تعامل مع المهام المنزلية البسيطة التي تكون داخل الأسرة ؛ فقد كان يوقد النار، ويكنس الأرض، ويحلب الشاة، ويرتق بيديه حذائه وجلبابه".
ونراه في سائر أمور حياته يتجنب أحوال الفخر والتكبر سواء في مشيته، أو جلسته، أو ركوبه، أو طعامه أو استقباله للوفود والأصحاب.
وقد شدد صلى الله عليه وسلم على التحذير من أمراض القلوب، وخاصة من تسلل صفة الكبر المذمومة إلى القلب فهو القائل: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" مسلم
كما نهى أصحابه كذلك عن تبجيله كالملوك والقيام له فقال :" من أحب أن يتمثل له الناس قياما ؛ فليتبوأ مقعده من النار " , ويقول أنس : " لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله r كانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك" السلسلة الصحيحة
وليس أوضح مثالاً على تواضعه صلى الله عليه وسلم من دخوله مكة منتصرًا يوم فتحها وقد طأطأ رأسه إلى ظهر دابته من شدة تواضعه بعكس ما كان يُتوقع منه من فخر وزهو بعدما أذاقه كفار قريش أصناف العذاب والامتهان منذ بداية بعثته، ما حمّله على الخروج من مكة مهاجرًا إلى المدينة مع أصحابه الذين تركوا وراءهم كل نفيس وغالٍ من أجل الفرار بدينهم.
وإذا كان التواضع هو الوجه الثاني لثقته بنفسه صلى الله عليه وسلم والتي منبعها إيمانه وثقته بربه العظيم ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينس يومًا أنه ليس إلا عبدًا لله ، فكان ذلك هو الأساس الذي تسير عليه كافة مناحي حياته من جهاد، وعمل واجتهاد، ودعوة، فكان يقول : "إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله " مختصر الشمائل
و كان يحث المؤمنين على التواضع و إجابة دعوة الفقير إذا ما دعاه إلى طعام مهما كان بسيطًا وقليلاً ويقول : " لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت" البخاري ، وذلك حتى لا تنكسر نفوس الفقراء والمساكين الذين كانوا يحبون أن يأتي محمد r إلى بيوتهم ويجالسهم ويأكل معهم.
ويقول أحد الصحابة : "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله و إلا تركه" البخاري
وقد أجاب رسول الله، على عظم قدره ومكانته، دعوة أشخاص مغمورين وضعفاء ليسوا ذوي مكانة أو فضل بين الناس كي يوطد أواصر الحب بين الناس ويلقي بنزعات الجاهلية من كبر وفخر إلى بئر الاستياء والنسيان.
ثم نراه يهديء من روع شخص جاءه للمرة الأولى وكان مرتعد الفرائس خائفا وظن أنه سيواجه ملكًا ينعم في خيلائه فقال له محمد صلى الله عليه وسلم : "هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" السلسلة الصحيحة , بل كان يحرص على إبداء تواضعه في كل سلوك من سلوكه مهما خف وقل , حتى إنه كان لا ينزع يده من يد أحد يسلم عليه حتى ينزعها الآخر أولاً، وهو تواضع جم، ولفتة تعطي انطباعًا ضمنيًا بالألفة والترحيب والسعادة.
وعن تواضعه الجميل قال الأديب والشاعر "بوزورث سميث" " لقد كان رئيسًا للدولة ولجماعة تدين بنفس العقيدة، لقد كان يجمع سلطة ومقام قيصر والبابا معًا، ولكنه بابا بدون خيلاء البابا وغروره، وقيصر بلا فيلق أو حشود وبلا جيش عامل ولا حارس شخصي ولا قوة من الشرطة ولا دخل ثابت. فقد كانت معه جميع السلطات من غير أن يكون معه ما يدعمها أو يحافظ عليها وقد كانت بساطة حياته الخاصة متطابقة ومنسجمة مع حياته العامة"