التشدد لا يدوم ولا يعيش طويلاً , فهو يناقض خصائص الطبيعة الإنسانية , إنه شىء هش ليس له جذور , يعيش في نفوس أصحابه , ثم ما يلبث ويموت معهم , فلا يذكرون .
إن النفس الإنسانية بالغة التعقيد , متعددة الخصائص , قابلة للترويض , لا يصلح معها الجبر والكسر, وإنما يروضها التدريب والتعليم والتلقين والجذب والتفاهم , فهي ذات مطالب متعددة ولابد إذا أردنا طاعتها أن نتفهم تكوينها وندرك مطالبها , وإنما مراد جهدنا هو تأطير وتقويم تلك المطالب في حدود الصالح والمقبول إيمانيا وواقعيا , وأي قرار يتخذه الإنسان ولا يراعي فيه تلبية مطالب نفسه لن يدوم طويلاً ..
لقد ذهب ثلاثة من الرجال إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته , فذكرت لهم عبادته , فكأنهم تقالوها – أي قالوا في أنفسهم إنها قليلة – وقال الأول أن يصوم النهار كل يوم ولا يفطر أبداً , وقال الثاني أنه يصلى الليل كل ليلة ولا ينام ابدأ , وقال الثالث أنه يعتزل النساء ويتفرغ للعبادة .
إن المربي قليل الخبرة قد يفرح بتلك التطوعات التي يتطوع بها أتباعه , ويحسبها إيجابية ونشاطا , وقد يفرح القائد برغبة أتباعه في عمل الفروض اللازمة عليهم , وأنهم أصبحوا مؤمنين بالفكرة إيماناً راسخاً ومستعدين لفعل المزيد والمزيد , إلا أن المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم ليس كذلك .. , لقد بلغه ما قالوا وقرروا , فناداهم وكلمهم وعنفهم , وأنذرهم أن هذا الكلام خارج عن سنته , فقال لهم " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! , أما والله إني أخشاكم لله واتقاكم له لكنني أصوم وأفطر , وأصلي وأنام , وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني "
ولنسأل أنفسنا لم أنزعج رسول الله من هذا , ورد هذا الرد الحاسم , انه يغلق باب التشدد والتطرف بكافة اشكالة , حتى لو كان تطرفا في العبادات , فهذا مخالف لمنهج الإسلام في الاعتدال والتوسط .
لقد علمهم أن الله عز وجل حينما شرع العبادات جعلها وسائل لتهذيب النفوس , واقترابها من ربها , ولم يجعلها تبتلا ولا رهبانية وانقطاعا عن العالم الحي , لقد أراد منا العبادة بالشرائع والتكاليف , والعبادة بعمارة الكون , ومن ينقطع عن إحداهما فهو مجانب للصواب , ولئن فعل هؤلاء الثلاثة ما ودوا فعله واقتدى بفعلهم الناس , وظنوا أنه الصواب فمَن - حينئذ - يصلح الكون ؟ وما مهمة المسلمين حينئذ إن تركوا الدنيا وتفرغوا في الصوامع ؟!
وسبب آخر : إلى متى يستطيع الإنسان أن يكمل هذا الطريق ؟! أليس الجسم بحاجة إلى الطعام والشراب وبحاجة إلى النوم والراحة , أليس كل رجل بحاجة إلى المرأة ليسكن إليها ؟!
إلى متى يستطيع المتشدد أن يتحمل ؟ إنه لن يكمل الطريق لأن الطبيعة البشرية تمنعه , ستلح عليه وستطالبه بتأدية مطالبه , وتحققها رغماً عنه , وسيشعر بالألم حينها , وربما يقع في الإثم فعلاً , لأنه عندما حرم بعضُ الناس على أنفسهم الزواج تعبداً ورهبانية ظهرت بينهم موبقات كثيرة , فالجسد لن يتحمل حتما ماهو ضد حاجاته .
الخطورة الأكبر أن هذا المتشدد إذا ماقدر له وتخلى عن تشدده وتطرفه يوما سيتخلى عنه كلية ولن يعود للاعتدال بحال , بل سيعود إلى التطرف المعاكس , ولهذا حسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي ظنه بعض الناس زيادة , ولكنه نقصان وأي نقصان .
ثم هاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يتم ذلك المعنى بقوله في حديثه :" إياكم والغلو في الدين ,. فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " أخرجه النسائي , وحديث آخر ينقله أنس رضي الله عنه فيقول صلى الله عليه وسلم : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم , فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم , فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " أخرجه أبو داود .