قيمة المال في منهاج النبوة
8 ذو القعدة 1431
د. خالد رُوشه

خالد روشه
[email protected]
في أيام صار المال فيها هو الهدف الأكثر بريقا في أعين غالب الناس , وصار الصراع عليه صراعا دائما في كل وقت , فيفقد المرء أقرب المقربين إليه رجاء البحث عنه , ويطيح الآخر بأصدقائه بعيدا مخافة أن ينافسوه فيه , ويتنازل ثالث عن منهج حياته وطريقة قناعاته رغبة في أن يكون ثريا مرفها ... في أيام كهذي وأمثالها يحتاج الناس إلى تذكيرهم ببصيرة المنهج النبوي الأسمى في نظرته للمال , وكيف يراه ويتصرف فيه , وماهي المبادىء التي على أساسها يتعامل المرء المسلم مع المال .

 

إن هناك قواعد مهمة بينها الإسلام فيما يخص المال علمنا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أن نسير في ظلها بينما نحن نتعامل مع المال :
أولا : أن المال مال الله وأن الله مستخلفنا فيه :" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " وأنه سبحانه جعل للفقير والعائل والمحتاج ومن هو في مصيبة يفرجها المال نصيبا فيه , وجعل نصيب الزكاة حقا لأصحابها .
ثانيا : أن المرء مهما جمع ووعى – وهو لن يكتفي منه و لن يملأ فاه إلا التراب - لن يزيد أن يكون مورثا لورثته , فيترك لهم ما تعب واجتهد في جمعه كما يقول صلى الله عليه وسلم " أيكم مال وارثه أحي إليه من ماله ؟! " قالوا يارسول الله كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه , فقال صلى الله عليه وسلم " مالك ما أنفقت ومال وارثك ماتركت " , فعل كل عاقل أن يكتسب منه ما يفيده ولايضره , وما يسهل حسابه ولايثقله .

ثالثا : حَثَّ الإسلام على السعي لكسب المال من وجه مباح والحصول عليه خاليًا من الظلم والتعدي وأكل الأموال بالباطل والأكل عن طريق الربا أو المال المشبوه أو غيره , فقال سبحانه " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لأن يحتطب أحدكم حُزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه».البخاري

رابعا : حث الإسلام على إنفاق المال في جميع صور التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي والبحث عن مواطن الثواب به وجعل فيه نفقات واجبة على من تلزم صاحب المال نفقته كالزوجة والوالدين والابناء وغيرهم .

خامسا : أنكر الإسلام على الوصوليين ومحبي المال وكانزيه البخلاء عن إنفاقه وعباد الدرهم والدينار "حتى يقول صلى الله عليه وسلم " تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم "
ونحاول معا أن ننظر إلى طريقته التطبيقية صلى الله عليه وسلم للمبادىء السابقة مع المال :

يقول أنس رضي الله عنه : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة " صحيح مسلم

 

 

إن قيمة المال في حس النبي صلى الله عليه وسلم قيمة لا تقوى على جذبه إليها , فالمال مال الله , وهو قد استخلفه فيه , وهو أداة لنشر الخير ورفع آلام المتألمين ومعاناة المتضررين , وإصلاح النفوس وتشجيع الناس على تقويم سلوكهم وإصلاح مسارات حياتهم , وهذا بعض ما يدل عليه ذلك الموقف السابق من حديث أنس .

 

 

لقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء رجاء رضا ربه وترغيباً للناس في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولاً للدنيا ثم لا يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه , يقول أنس :  (إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)

كما كان ربما اختص رجالا بعطاء زائد مخافة فتنتهم مخافة الفقر والعوز وإذا رأى صلى الله عليه وسلم الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجزل له في العطاء، فقد قال "صلى الله عليه وسلم" : «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه» البخاري
ويوم أن كان في سفرة مع أصحابه واقترضوا مزادتين من امرأة مشركة ليتوضؤا ويشربوا , أبت نفسه صلى الله عليه وسلم إلا أن تعيد المزادتين مملوءتان فقال لأصحابه اجمعوا لها , فجمعوا طعاما مختلفا وجعلوه في ثوب ثم حملوها على بعيرها ووضعوا الطعام معها وأمرها أن تطعم عيالها فرجعت المرأة إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فحكت عن فعل محمد وأصحابه معها فأسلمت وأسلم جيرانها معها " البخاري

 

لقد وصف كثيرون ممن لقوا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم محمدا  أنه  يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر, والحق أن عطاءه للناس إنما كان مرتبطا بأهداف رسالية طموحه ليس من بينها الغنى وليس يخيفها الفقر أو الحاجة , لقد كان يتحرك معتمدا اعتمادا أساسيا على توفيق ربه له وكان يعتقد اعتقادا جازما أن ربه سيخلف عليه فيما هو أفضل وأبقى مما ينفق , بل إن آيات القرآن الكريم قد بينت ذلك فقال سبحانه :" وما تنفقوا من شىء في سبيل الله فهو يخلفه "

 

 

العجيب هنا أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يعطي هذا العطاء ربما بات جوعانا لا يجد طعاما وربما مرت شهور ولا يوقد في بيته نار على طعام يقتاته هو ولا أهل بيته , إنه بهذا التطبيق الأمثل للتعالي على الزخارف والشهوات ليضع خصومه في موضع حرج بالغ إذ يدل بنفسه على سمو رسالته الربانية وشفافيته الإيمانية الغير مسبوقة .
أما في شهر رمضان فقد كان يضرب للعرب أمثلة لم يعرفوها في الكرم والجود , يقول ابن عباس : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " البخاري

 

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الرِّيحِ المرسَلَة، وكان أجود ما يكون في رمضان. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما –.
وربما قَدِمَ عليه سبعون ألف درهم، فقام يَقْسمُها فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها , ويحكي الصحابي الكريم جبير بن مطعم رصي الله عنه  أنه كان يسير معه فأوقفه الناس يسألونه المال حتى اضطروه إلى سمُرة، فخطفت رداءه ، فوقف صلى الله عليه وسلم فقال: أعطوني ردائي. لو كان لي عدد هذه العِـضَـاه نَـعَـماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا. " البخاري

 

 

وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأطهار تلك المعاني منه فكانوا ينفقون أموالهم ابتغاء رضا ربهم ويجودون بما عندهم، كل على حسب استطاعته، وقد أنفق الصحابي الكريم "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه ماله كله في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام، وتحرير الرقاب ، وقام الصحابي الكريم رضي الله عنه "عثمان بن عفان" بتجهيز ثلث جيش المسلمين في غزوة "تبوك"، وكان يتكون من ثلاثين ألفًا، وكذلك فعل "عبد الرحمن ابن عوف" و"عمر بن الخطاب" رضي الله عنهما وغيرهم كثير

 

 

وقد حث الإسلام على إنفاق المال بصورة تجعل المؤمن كريما في كل حاله, وحث على الاتصاف بصفة الكرم في جميع صوره وأشكاله، فأمر بإكرام الضيف، وإكرام الجار، وإكرام الأهل والأقارب، وجعل إكرام الضيف حقًّا واجبًا على المسلم، ودليلاً على الإيمان الصادق والطاعة لله ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" البخاري وأكد على حق الجار في الإكرام 
ودعا القرآن الكريم كذلك إلى رعاية الأقارب، والحرص على مودتهم وصلتهم وإكرامهم ، والإحسان إليهم، والعطف عليهم، ومد يد العون إليهم، قال تعالى :
"وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا "

 

 

كما عظم النبي صلى الله عليه وسلم ثواب الجود والكرم والإنفاق وبين القرآن الكريم ذلك , فيقول سبحانه : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} وقال تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
وقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
كما صور صلى الله عليه وسلم الكرم والجود كبركة خاصة للمال تزيده وتنميه وتدفع عنه الشرور , فيقول  : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا" البخاري , ويقول :" لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها"  البخاري

 

 

على الجانب الآخر فقد ذم الإسلام البخل والتقتير والمنع ,وحذر منه فقال تعالى : " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير [
وقال تعالى: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما أتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا" , وجعل الله عاقبة المنفقين الفوز والفلاح؛ قال سبحانه : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من البخل في دعائه، فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أَرْذَلِ العمر"البخاري
 ويقول صلى الله عليه وسلم : (ثلاث مهلكات: هوًى مُتَّبَع، وشُحّ  مطاع، وإعجاب المـرء بنفسه) السلسلة الصحيحة