حياة إيمانية نادرة
7 ذو الحجه 1432
يحيى البوليني

عجيب أن يشعر الإنسان انه في خلوة مع ربه رغم وجود الملايين من البشر من حوله , ربما تكثر الهمهمات وقد تتحول لنوع من الضجيج المختلف الألسنة واللهجات , لكنها لا تقطع عليه خلوته , فيدخل ذلك المؤمن الذي يذهب للحج مصطحبا شعور الشوق والحنين لتلك البقاع الطاهرة في رحلة مناجاة وفي رحلة سياحة ربانية ربما لا تتكرر في حياته , فينخلع رويدا رويدا عن الناس فلا يراهم ولا يسمعهم ليعيش لحظات خلوة ومناجاة مع خالقه ومولاه سبحانه .

 

فمنذ أن كتب الله على المؤمنين شعيرة الحج , ومنذ أن بدأ الناس يتوافدون على البقاع الطاهرة , إلا ويستطيع كل منهم أن يروي لك تجربة حجه كأهم رحلة عاشها وسار فيها بقلبه قبل أقدامه , كيف حلم بها , وكيف حدث بها نفسه سنين طوالا , كيف اقتطع من قوت يومه وادخر ليجمع كل ما يستطيع للذهاب لبيت الله الحرام , وكيف كانت تتساقط عبراته شوقا للحج والزيارة كلما سمع حاجا عائدا يروي ذكرياته ومواقفه , وعندما تقدمت وسائل التكنولوجيا .. كيف كان بكاؤه عندما يرى بقلبه قبل عينيه جموع الحجيج كالملائكة بيض الثياب بيض القلوب وهي تتحرك طائفة حول البيت العتيق أو واقفة على جبل عرفات أو شاربة ناهلة من ماء زمزم أو ساعية بين الصفا والمروة .

 

رأى بعينيه الشيخ الفاني يبكي وينتحب بين يدي ربه .. فتمنى ألا يدركه أجله قبل أن يصل للمناسك الطاهرة , ورأى الطفل يحمله أبوه يطوف به .. فرق فؤاده وهو يتمنى أن يحمل طفله ليكحل عينيه بالبيت وهو صغير فتتشبع عينه بهذا الجمال والجلال فيكرمها ألا تقع على محرم بعد أن ارتوت بتلك المشاهد.

 

كم نظر إليهم وبللت دموعه وجنتيه وهو يلهج بالدعاء أن يرزقه الله مثل ما رزقهم وأن يكتب الله له الحج والقدوم قبل أن ينتهي أجله .

كم سمع ممن حج البيت من قبله , ممن يعتبرون أن لحظة الحج لحظة فارقة في مسيرتهم , فيستطيع كل منهم أن يقسم سجل تاريخ حياته لقسمين , حياته ما قبل الحج , وحياته المختلفة بعد الحج .

فاستعد ليكون حجه من هذا النوع , لتكون تلك الأيام أياما مشهودة يسطر بها تاريخا جديدا ليرجع بقيم جديدة بنظرة مختلفة للحياة يقينا ستختلف كثيرا عن النظرة التي خرج بها , وذلك إن قد الله له وعاد ورجع لبلده , وكل الحجيج يتمنى ألا يعود .

 

وعندما طال انتظاره واستبد به الشوق وأسره حب البيت وشعر أن كل ما في هذه البقاع يناديه ويملك عليه سمعه وبصره وفؤاده , حينها أذن له ربه وجاءته البشارة , فخر على الأرض ساجدا يحمد ربه ويشكره ويبكي فرحا بهذا الإذن الذي طال شوقه له

لا رفث في الحج

دخل في الإحرام فنسي أنه متزوج , نسي أن له رغبات وأهواء إنسانية , فلا رفث في الحج , ولا حديث بين الناس عن هذا الشأن كعادتهم في كل زمان ومكان , اليوم كل شيئ مختلف عما سبق وعهد , فلا حديث بينه وبين زوجه ولا فعل ولا مقدمة لهذه الشهوة , فالأمر أكبر من هذا , إنه أمر جلل حيث يهتم كل منهم بنفسه , كل منهم يطلب النجاة من ربه , لا يهتم بغيره بقدر ما ينشغل بنفسه وبسبيل عتقها من عذاب الله , لا ينشغل بشهواته حتى بالمباح والجائز منها في غير الحج .

 

ولا فسوق في الحج

يتزاحم فيه الرجال والنساء وتكاد تلتصق الأجساد بالأجساد , ولكن تختفي الأفعال التي تحدث بين الناس في غالب الأماكن المزدحمة , فلا يصدر فعل فسق منهم , ولا يخطر ذلك الفسوق على بال أحد ,  فلربما لا يشعر الإنسان بمن يسير بجانبه أو أمامه أو خلفه .. رجلا كان أم امرأة , لا يسمع إلا صوت الأنات والدعوات والزفرات وأشواق القلوب وصوت البكاء الذي يغلي كأزيز المرجل في الصدور .

 

كل ما يتخيله الحاج ويظنه أنه خرج من دائرة الزمان والمكان , فيشعر أنه ليس في مكة ولا حول الكعبة , كل ما يقع في قلبه أنه قد لبس كفنه الأبيض رداء وإزارا , خرج إلى ربه للقاء ربه تاركا كل شيئ وكأنه في عرصات يوم القيامة , كل منهم مشغول بنفسه يبحث عن نجاتها .

 

كيف له أن يزيد آثامه وفسوقه في اليوم الذي أتى فيه معتذرا باكيا , كيف يفسق وهو يستشعر أنه كما لو كان في أرض المحشر يوم القيامة , وأن كل هذه الجموع قد جاءت لكي تتناول صحف أعمالها ؟! , كيف ينشغل بشيء تافه حقير عن تقرير المصير الذي ليس بعده مصير ؟! .

 

تعجبت أمنا عائشة رضي الله عنها يوما كما روي في الصحيحين أنها عندما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال : " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض " 

 

ولا جدال في الحج

وينشغل أحدهم عن حدود جسده فلا ينافس على شيئ من الدنيا ولا يجادل فيه , فكيف يتدافع مع غيره في عرض من أعراض الدنيا وهو الذي جاء متخليا عنها تاركا لها طالبا شيئا واحدا فقط , وهو أن يرضى الله عنه وان يتجاوز عن سيئاته وذنوبه , كيف يتجادل حول موضع يجلس فيه ليدعو الله سبحانه,  وهو يعلم أن الله يسمع النجوى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟! , كيف ينازع على طعام أو شراب أو سكن وهو الذي جاء زائرا لتلك البقاع سرعان ما سيتركها – كما هو حاله في الدنيا تماما – سرعان ما سيتركها أيضا-  , كيف يجادل ويتشاحن مع من طعنه في خاصرته أثناء الرمي من شدة الزحام والتدافع  ؟ كيف يزاحم على الحجر ويؤذي غيره وهو يعلم أن فيه رخصة لمن لم يستطع أن يقبله أن يشير إليه ؟ كيف يزاحم - ويؤذي المسلمين - على الصلاة بين الحجر والمقام وهو يعلم أن الأرض كلها لله وأن قبول الطاعات لا يكون بحسب الأماكن الفاضلة وحدها إن لم يستطع فعل المستحب ؟!

 

أخي الحاج :

لقد رزقك الله نعمة عظيمة فاستشعر هذه النعمة عليك , لقد اختارك من بين ملايين المسلمين لينعم عليك وليجعلك ضمن وفد للقدوم عليه , واستشعر أنك من فئة قد اختصها الله هذا العام بتلك المنحة الإلهية , فالمسلمون يبلغون حوالي ألف وخمسمائة مليون مسلم , وعدد الحجيج مهما تعاظم لن يبلغوا خمسة ملايين , فاستشعر أن هناك ملايين من المسلمين ولدوا وعاشوا وتشوقوا للحج , ثم ماتوا ولم يبلغوا تلك الشعيرة ولم يستطيعوا الوصول للبقاع الطاهرة , فلا تفسد حجك بشيئ من الدنيا ..

فامض في طريقك , وكن في خلوتك وحدك , فلا تهتم بالناس ولا تنشغل بهم

ولا تجادل أحدا ولا ت لتفت , وأكثر من ذكرك لربك عند كل حجر وشجر كي يكون شاهدا على ذكرك يوم القيامة .

هي رحلتك أنت التي ربما لن تتكرر ثانية – مع سؤالك لربك سبحانه أن يعيدها عليك – فجد السير واحذ حذو الصالحين الذين اعتبروا الحج رحلة سعي إلى الله يطلبون بها النعيم في الحياة الآخرة .

فتأمل صاحب رسول الله وخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه الذي كان إذا أحرم بحج أو بعمرة لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه , وعلى كثير فضل وتقوى لله كان زين العابدين علي بن الحسين - رحمه الله – الذي نوى الحج فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وارتعد ، ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : ما لك ؟ قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك!

وكان شريح القاضي رحمه الله إذا أحرم كأنه حيّة صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله عز وجل.

وتذكر أخي الحاج وتمسك بحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الألباني " أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك " ,  فاحفظ لسانك وأمسك عن الجدال والمخاصمة والسباب والمشاتمة , والزم مواطن الطاعة , فما قطعت الصحاري والقفار وتركت الأهل والأبناء والديار لكي تصخب بالأسواق وتجادل في بيع وشراء ومخاصمة , ودع هذا الأمر إلى ما بعد انتهاء المشاعر , وأكثر من بكائك على خطيئتك عسى قطرة من عينيك ترضي ربك وتجعلك عنده من المقبولين

وأبشر بخير أيام ستهل عليك منذ أن ولدتك أمك - إذا حسن حجك - ابتهاجا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه "

تقبل الله حجكم ورزق كل مشتاق للحج إلى بيته الحرام حجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة